129

وكان السائل هو إيفانوف ففزع سارودين وأشفق من أن يكون ما قاله عن ليدا قد سمعه أحد ولكن إيفانوف كان يناديه من السكة ولم يكن بحيث يرى فصاح به سارودين من النافذة. «نعم. نعم هنا.»

وعلت في الغرفة الأخرى جلبة ضحك ووقع أقدام كأنما غزا البيت جيش من أهل القصف، ثم دخل إيفانوف ونوفيكوف والكابتن مالينوسكي وضابطان آخران وسانين. وصاح مالينوسكي وهو يدفع نفسه داخلا الغرفة: «هوراه! كيف أنتم أيها الصبيان؟»

وهو رجل وجهه أحمر وخداه سمينان طريان وله شاربان تخالهما عودين من القش.

وقال سارودين يحدث نفسه مغضبا: «وستذهب أيضا ورقة بخمسة وعشرين روبيلا.»

ولكنه لم يكن يحب أن تسوء سمعته وأن يظن به إلا أنه غني كريم فصاح بهم وهو يبتسم لهم: «هالوا! أين أنتم ذاهبون جميعا، آتون إلي؟ هيا يا شيريبانوف هات لنا فودكا وسائر ما نحتاج إليه. اجر إلى النادي وائت بشيء من الجعة. إنكم تريدون جعة أليس كذلك يا سادة؟ في مثل هذا الحر؟»

ولما جاء الخادم بالجعة والفودكا زادت الضجة وعلت الجلبة وصاروا جميعا يضحكون ويصيحون ويشربون كأنما آلوا أن يحدثوا أكبر صخب ممكن، ولكن نوفيكوف كان مطرقا مكتئبا وعلى وجهه الطيب أمارات منذرة. ولم يكن قد عرف إلا أمس ما تلغط به البلدة فطغت به في أول الأمر الغيرة والشعور بالمهانة ثم قال لنفسه: «إن هذا مستحيل! سخافة مطبقة وحديث خرافة.»

وأبى أن يصدق أن ليدا الجميلة المزهرة البعيدة المنال - ليدا التي يحبها من أعماق قلبه - يمكن أن تكون قد تورطت على نحو مخز مع مخلوق مثل سارودين الذي يعده نوفيكوف دونه ذكاء ومواهب. ثم استحوذت على نفسه الغيرة الجامحة الحيوانية ومرت به لحظات يأس مرة فكانت تمزق قلبه الكراهية لليدا ولسارودين على وجه أخص. وهو إحساس لا يلائم مزاجه الهادئ اللين فكان لذلك يتطلب منفذا ومتنفسا، وظل الليل كله يرثي لنفسه، بل لقد خطر له الانتحار غير أنه ما كاد الصبح يتنفس حتى نازعته رغبة جامحة طاغية غامضة أن يرى سارودين.

ولما جاء انتحى ناحية وجعل يكرع الكأس إثر الكأس وعينه ترصد كل حركة لسارودين كما يرصد الوحش في الغابة قرينه الوحش - متظاهرا بأنه لا يرى شيئا ولكنه على هذا أتم ما يكون استعدادا للوثوب - وكان كل ما له علاقة بسارودين - ابتسامته وأسنانه البيضاء وقسمات وجهه المليحة وصوته - كل هذه كانت سهاما أو خناجر في جرح رهيب فاغر.

وقال ضابط طويل نحيف له ذراعان طويلتان: «سارودين! لقد جئت إليك بكتاب.»

وسمع نوفيكوف وسط الصخب العالي اسم سارودين يذكر وصك أذنه صوته كذلك كأنما كانت ألسنة الحضور خرساء وقال: «أي كتاب؟»

Unknown page