Sanduq La Yattasic Li Ahlam
صندوق لا يتسع للأحلام: مجموعة قصصية
Genres
إهداء
الطائر الملعون «سندريلا» تهرب
نداء إلكتروني
الوجه الخيزراني
بائع الكلام
التوقيت المناسب
نصب تذكاري
فقاعة الهواء
انتصار
قيلولة
Unknown page
جمهورية المبروك
قطعة سكر
رائحة الدجاج
المفكر الكبير
في حضرة رجل
رمادي
فوبيا
رقص منفرد
صندوق لا يتسع للأحلام
مدينة في حراسة موكب الملائكة
Unknown page
ليلة العيد
ذاكرة نظيفة
بنت بأحلام نفاذة
اسم معرف
نظام غذائي، رجل منزوع الدسم
واجهة زجاجية
إهداء
الطائر الملعون «سندريلا» تهرب
نداء إلكتروني
الوجه الخيزراني
Unknown page
بائع الكلام
التوقيت المناسب
نصب تذكاري
فقاعة الهواء
انتصار
قيلولة
جمهورية المبروك
قطعة سكر
رائحة الدجاج
المفكر الكبير
Unknown page
في حضرة رجل
رمادي
فوبيا
رقص منفرد
صندوق لا يتسع للأحلام
مدينة في حراسة موكب الملائكة
ليلة العيد
ذاكرة نظيفة
بنت بأحلام نفاذة
اسم معرف
Unknown page
نظام غذائي، رجل منزوع الدسم
واجهة زجاجية
صندوق لا يتسع للأحلام
صندوق لا يتسع للأحلام
مجموعة قصصية
تأليف
شرين يونس
إهداء
أمي!
أردت يوما أن أكتب سيرتك الذاتية، ثم استصعبت الأمر، حتى اكتشفت تباعا أنك تسكنين تفاصيل كل حكاياتي.
Unknown page
الطائر الملعون
وقفنا جميعا، حشودا مجتمعة بالآلاف، في هذا اللقاء الأسبوعي، الرءوس تتعلق بالسماء، وبهذا الواقف فوق تلته يخطب فينا. في حديثه سكينة، وعلى وجهه أمارات القداسة. أجواء إيمانية خالصة. نرتفع بأيادينا لأعلى، وكأننا نطرق للسماء بابا. دعوات وصلوات تتلى وسط تأمين جماعي.
مضت الدقائق تطهر ما علق بأبداننا ونفوسنا طوال الأسبوع من خطايا. نشعر بكلماته تتناثر فوق رءوسنا كالتبر، فيزداد المشهد بريقا.
لا حاجة لبكاء أو نحيب؛ فكلها مظاهر دنيوية تسقط في هذا الطقس الإيماني بامتياز. لم تعد الأقدام تتحمل صلابة الأرض، وكأن مراسم التوبة خففت من أثقال النفوس والأبدان، فصارت الأرض تحتنا كبساط مخملي يمحو حدود الأرض بالسماء. وهو في ردائه الأبيض كرسول من السماء جاء ليمنحنا بركته.
بعد انتهاء الخطبة يسأله المؤمنون، بحماسة، أمارة لقبول التوبة. يجيبهم بابتسامة صافية، فتحمل إليه حمامة بيضاء. يهمس لها مانحا بركته، ويطلق سراحها. تتعلق النفوس بجناحيها، فيختلط بياضها الثلجي ببياض السماء، فتزيد الجموع حماسة.
يقطع المشهد، يظهر فجأة كنقطة سوداء، ثم تقترب، وكلما اقتربت تزداد ضخامة. يتجه حيثما الحمامة، وكأنه أراد بسواده حرماننا من اكتمال طقس توبتنا. نتابع المشهد مشدوهين. تتعلق قلوبنا بالحمامة، أمارة قبول توبتنا، فتطلب قلوبنا العون لها.
يزيد الاضطراب بين الصفوف، ويبدأ المؤمنون صلاة أخرى لمساعدة ذات البياض الثلجي. تغلق العيون رافضة ألا تقبل توبتها، فيما تقل المسافة بين الجسدين الطائرين، حتى يحط عليها بمنقاره الضخم، فيختلط الأبيض بالأسود، ويرتفعان معا، وتبتلعهما السحب.
لحظات ثقيلة مرت، حاولنا البحث عن تفسير وسط غمزات المتشككين. وحينما فشلنا، انفض الجمع منكسي الرءوس، وركب الجميع صمت يشوبه الفزع والإنكار. وحينما حاول الأطفال إعادة رواية ما حدث، نهرهم آباؤهم، وأمروهم بالصمت؛ رغبة في محوه من ذاكرتهم.
حول أجهزة التلفاز، كان هناك اجتماع آخر لمن غاب عن الحدث لقلة إيمانه، أو لانشغاله. حان وقت إعادة بث الحدث الإيماني. يتابع الجميع المشهد: الأيادي المرتفعة للسماء، والوجه الساكن بقداسته؛ الحمامة المحمولة، والهمس، وإطلاق السراح. ولكن الحمامة طارت في هذه المرة عاليا، تودعها الجموع بكلمات مقدسة، واختفت حيث أراد الجميع لها، واختلط بياضها بالسحب دونما تعكير لصفو قبول التوبة.
اختفى النورس الأسود في إشارات البث وسط تساؤلات المؤمنين: هل كان حقيقيا أم اختلقته أرواحهم الشريرة؟ وفي الأعوام التالية استخدم طائر إلكتروني لضمان ألا يتكرر ظهور هذا الطائر اللعين.
Unknown page
«سندريلا» تهرب
أكره ليالي الصيف؛ فرطوبتها تعيث في زينتي إفسادا. أتذكر «أيمان» البائعة وهي تخبرني بثبات المساحيق، وها هي تذوب كذوبان الثلج، فألعنها ألف مرة.
أفتش في حقيبتي عن مرآتي لأسوي زينتي كل بضع دقائق، محاولة إخفاء زكامي بمزيد من الألوان، وأزيل بمنديلي الورقي عدوان الشارع على حذائي.
أتعبني الوقوف أكثر من ساعتين، وهذا اللعين المشدود في وقفته على الرصيف المقابل تذكرني نظراته بزحف شيخوختي.
أعقد يدي أمام صدري مرة، ومرات خلف ظهري حين أمل، وأستمر في السير ذهابا وإيابا أمام زبائن هذا الفندق المتهالك كسني عمري.
على الجهة الأخرى من الطريق، تختال تلك الشابة ممشوقة القوام، تتبختر في خطواتها برأسها المرفوع زهوا. تغريني نظراتها المتعالية وتلك المساحيق التي أبرزت مفاتنها بإلقاء حجر فوق رأسها المرتب بعناية، فترتطم رغباتي بنظرات رجلنا ببزته الكالحة اللون كزينتي الرخيصة الثمن.
يلح علي ألم هذا الكعب العالي، فألعن وقفتي، وأتمنى أن أكون «سندريلا»؛ فأرمي بحذائي العالي وبزينتي في وجه أمرائي، وأهرب منهم أجمعين قبل حلول منتصف الليل، وأعود، عن طيب خاطر، خادمة في منزل أبي، وأدعو لزوجته آلاف المرات.
من بعيد، تخترق أوهامي أبواق سيارة صاخبة، ومصابيحها المتلألئة تدمي عيني. أعرف بخبرتي زبائن السيارات وسقف كفايتهم المرتفع عن إمكاناتي، وبالفعل صدقت توقعاتي حينما مرت دقائق تحادثت فيها الفتاة ورجلها مع أصحاب السيارة، ثم رحلت بهم.
يشقني الملل ويهصرني. أشغل عقلي بمداعبة جامع القمامة الذي يرميني بنظراته الفضولية، فأرسل إليه فيضا من الغمزات الجانبية، فيرتاب من تجاوبي ويسرع الخطى مبتعدا.
تمر دراجة بخارية، يطلق ركابها صفاراتهم المشاكسة كمراهقتهم، ونظرات رجلنا تكبل رغباتي؛ فالتعليمات تأمرنا بعدم الانصياع لمداعبات المراهقين؛ فكلها ضرر ومضيعة للوقت.
Unknown page
تداعبني كلماتهم الساخرة، أشعر بها أكثر صدقا، ترمي عني ثقل الزينة والرطوبة. يحاولون إغرائي بما يملكون؛ كلمة، وسيجارة رخيصة السعر؛ فيأمرني رجلي بالرفض بحركة عنيفة من رأسه، وحينما ييئسون، يتحلقون على جانب الطريق، ويطلقون العنان لنكاتهم وضحكاتهم المجلجلة.
ألمح آخر يأتي على بعد أمتار، يتلفت يمينا ويسارا، وحينما لا يجد غيري تمتعض ملامحه، وحينما يهم بالرحيل يسارع إليه رجلي، يفاوضه ويتودد له، ويطن في أذنه، ويرسل إلي نظرات تستحثني على استعراض إمكاناتي. وحينما أهم بالتبختر، تستوقفني تلك الضحكات المتناثرة على جانب الطريق، طليقة وحرة، تذكرني بضحكتي المسحولة كذبا وادعاء. أراهما يحثان السير تجاهي، فأخلع هذا الكعب العالي وأسرع إلى الدراجة البخارية التي لا تلبث أن تطير بي. ننطلق تحت نظرات الرجلين اللاعنة، وأستنشق بسعادة أول نسمة في هذه الليلة الرطبة، رغم يقيني من عقابي المنتظر.
نداء إلكتروني
المكان يعج بالبشر من كل الأطياف كلوحة فسيفساء، وينافس أكثر الأمكنة ارتفاعا في معدل كثافتها السكانية. أتململ في جلستي ممتعضا، أهش عني أفكاري الشريرة التي تحاول تلطيف أجواء الاختناق التي لا تناسب أجواء مارس الربيعية .
ككل تلك الآلات التي تقتحمنا فتحيلنا أجزاء معطبة بجانبها، صرنا في تلك القاعة الصغيرة مجرد «عيون وآذان» ترضخ لهذا النداء الإلكتروني، وتتلفت بلهفة وغيرة لصاحب الرقم المحظوظ.
بمجرد دخول رقم إضافي للقاعة، وكطقس نعتاده للتعارف ولقتل الوقت، نبدأ في تبادل النظرات، وكأنه يحصي المنتظرين. تلتقط عيناه الرقم الوامض على الشاشة الإلكترونية، فتأتيه «الضربة القاضية» ل «فارق النقاط»، ثم يجر قدميه لينضم إلى كومة الأرقام على مقاعد الانتظار.
يرتفع معدل التأففات، والاعتراضات المكتومة مع اتساع الهوة بين حجم الأرقام المتململة، وحركة الأرقام المضاءة البطيئة كسلحفاة. يغريني الوقت، فيطل هذا الفضولي من رأسي، يحتك بأسرار الهواتف النقالة المفتوحة على مصاريعها، ويقتات على ما يصله من أحاديث جانبية وثرثرات أثيرية يقتل بها الجميع مللهم.
ترصد عيني الأحذية، وقامات أصحابها المتباينة، ما بين الأحذية الرياضية ذات العلامات التجارية المشهورة، والأخرى «المضروبة» المقلدة، والجامعي بحذائه «البانص» متحررا من جوربيه، حسب آخر نداءات الموضة، وذات الحذاء الأحمر الناري بكعبه الحاد كطباعها البادية في تأففها وعبارات اعتراضها المتكررة، وتلك المتخففة من أحمالها فاكتفت بالصندل. أتذكر مقولة قرأتها في مجلة للموضة: «الحذاء علامة لفك رموز الشخصية.»
أتعوذ من شيطاني، وأحاول تهدئته ببعثرة محتويات هاتفي النقال، فتقطع محاولاتي تلك الثرثارة بجانبي التي لم تفطن لأني غير معنية بمشكلات مديرها في العمل، وراتبه، وحوافزه التي ترويها هاتفيا، فيما يتحول مقعدي تحت وطأة اهتزاز ساقيها إلى أرجوحة تصيبني بدوار.
يختال أحد الأرقام، يدخل متكئا على استمارة إيداع، ومفاتيح فضية لسيارته الألمانية، تتعثر به تلك السيدة الريفية التي تعاود النظر في ورقتها والرقم المضاء على الشاشة. «باقي رقمين»؛ هكذا تمني نفسها بفرج الحال، فلا تنتبه لخطوه المتباهي.
Unknown page
تعتذر بتمتمة، وتعاود جر طفلها الباكي، تسر له بمكافأته بقطعة حلوى إذا ما كف عن صراخه وهرجه.
بلهفة، تحادث الموظف البنكي المتشبث بسطوته. يخيب رجاءها بلا مبالاة، ويبلغها من خلف حاجزه الزجاجي أن حوالة زوجها المسافر لم تصل. ورغم توسلاتها لمراجعة بياناته، يخرسها النداء الإلكتروني بدعوة الرقم التالي. تتراجع وأطراف أصابعها تتحامل على الحاجز الزجاجي ، وكأنها تشكو إليه حظها.
أسأم الوجوه، فأداعب أصابعي حينا، ويتراقص جسدي على وقع ألحان سماعتي أذني حينا آخر، وحينما أنتبه لفضول جاري المسن بلحيته الصغيرة ونظراته المستنكرة، أطلق بلا مبالاة سراح عيني للحائط الرمادي الذي يشبه ملامح الموظفين الباردة.
ترتطم نظراتي بإعلانات متشددة لغسل المخ والجيوب، «كيف تسترد 20٪ من مشترياتك؟» الأمر يتوقف على مدى استنزافك. و«كن من الفائزين الستة أسبوعيا»، وشاشات أسعار العملات التي تذكرك بانهيارات دولتك العتيقة.
تتقلص هوة الأرقام تدريجيا، بعد هروب/نجاة عدد من العملاء. يزداد توتري وتململي مع تتابع الدقات الإلكترونية الرتيبة المفتتة للأعصاب كانتظارها. فجأة، يموت الصوت الإلكتروني، وتتوقف الرنات، وتعتم الشاشات، وبهدوء يعلن الموظف انقطاع التيار الكهربائي في البنك.
الوجه الخيزراني
بيدين مرتعشتين، أتمسك بطرف السجادة. تنبهني أمي بنظرات يتطاير منها التحذير ألا أفلتها، فأسقط بين ظلمات الخوف.
هل يمكن أن يتسبب شيء صغير في دوائر متعاقبة من الرعب، كل منها تسلمك لأخرى أوسع؟
أتابعها ترقد في سكون على وجه حائط مطبخنا، تصدمني بوجهها البيضاوي المتشابك كلما حاولت غلق الباب، أو إحضار بعض الأدوات من الخزانة.
يقشعر بدني حينما أتذكر وظيفتها، فأنشغل بإحضار ما طلبته أمي مني من الخزانة العلوية. أستطيل على أطراف أصابعي كي أصل إليها، فيرتطم كوعي بساقها، فتسقط، فأضطر إلى حملها وإعادتها إلى موضعها.
Unknown page
يدور عقلي مع التواءات تلك الأسطوانات الرفيعة، فأتعجب لطبيعتها التي منحتها تلك التقسيمات الأنثوية، ولمساتها السخية في نعومتها كوجه وليد، فتتداعى لذهني صور النبتة المقعدة التي حرمت من سيقانها، فيما ظلت هذه وفية لجيناتها الصابرة والقادرة على التحمل.
تفيقني أمي بصدى صوتها يتردد في جنبات المنزل، كأحد إجراءات هذا الطقس الأسبوعي. أتابع شرر نظراتها، وأحاول تجنبها محتمية بأحلام يقظتي الصغيرة مثل عمري؛ فهي تفقد في يوم التنظيف، بسبب تعبها وجسدها المتهالك، كثيرا من هدوئها الهش؛ فأحاول ألا أتدخل إلا حينما تطلب، وفي حدود المسموح لي.
تأتي الدعوة آمرة من فم أمي، فتضيع كل رجاءاتي هباء. تتشبث أصابعي القصيرة بهذا الطرف المنسوج وعناقيده المتدلية، ثم يبدأ الضرب ، فأرتطم ككرة صغيرة بمحيط دوائر الخوف المثيرة والمتعاقبة. ماذا ستفعل بي لو أصابت أصابعي؟ هل يمكن أن يتطاير أحد أجزائه على غرار الأفلام الأجنبية؟ وهل ستوبخني أمي حينها أم ستنشغل بالبحث عن الجزء الهارب مني؟
تستحيل أحلامي كوابيس مع بداية الارتعاش الذي تسببه الضربات في هذا السور الذي يحمل سجادتنا كمقصلة لتنفيذ عقوبتها الأسبوعية، فأتمنى أن تصير قدمي وتدا مثبتا في الأرض، فلا يخلعه أشد الاهتزازات، وتزداد وتيرة تساؤلاتي.
يزيد هلعي؛ فلا أفقه إن كان بسبب اهتزازات البلاط أم اختلاجات جسدي. تبدأ عيناي في الذهول، ويغيب عقلي في ترنيمة أخرى؛ لعلها تهدئ من روعي. وأخيرا، لا أرى وجه أمي أو خيزرانتها.
تهزني أمي بشدة، فأفتح عيني بتراخ. يواجهني هلعها وفي يدها زجاجة عطرها. تفتش في أنحاء جسدي وروحي عن سبب لهذا العطب المفاجئ، بلا أمل للإجابة.
امتنعت أمي عن طلبها الأسبوعي منذئذ، ولم تعد تعلق على أحلام يقظتي، لكن هلعي من الاهتزازات ما زال مستمرا.
بائع الكلام
يبدأ المؤتمر الصحفي، يرسم على وجهه ملامح الجدية، يلقح حديثه بكلمات إنجليزية تناسب بذلته «السينيه». على يساره ترتكز لوحة إلكترونية كبيرة، عليها رسومات بيانية، وأمامه تستلقي أوراق، يخط بأحمره على أرقام وبيانات لتأكيد نجاحات المؤسسة.
تصله رزمة الأسئلة، وبحركة اعتيادية يفضها بتأن وهو يتابع بيانه. وسط القصاصات يأتي دورها، لا تختلف في الشكل عن غيرها. يفتحها، فتصدم عينيه؛ جريئة وصريحة، والأسوأ أنها تقطر صدقا.
Unknown page
يبحث بين الوجوه عن مرسلها، يقلب فيها عن إمضاء أو علامة تكشف كاتبها، وحينما تتكتم يحاول تجاهلها، فيفاجئه شبح يأتيه مرة من خلف هذا العمود، أو من بين تلك الستائر المخملية، ثم يطل برأسه من تجاويف الحواجز المبطنة.
يتلعثم، تتقطع كلماته، يتخلى عن رابطة عنقه الحريرية، وعيناه معلقتان بهذا الخط وبشبح كاتبه. يستجدي الكلمات؛ لعلها تفضح صاحبها، فتطل عليه بسخرية وكأنها تبرز له لسانها.
تباغته حشرجة، فيسارعون إليه بكوب ماء، تتبعثر قطراته كطفل. يحاول استعادة الثبات، وإزاحة قطرات حرجه بمنديله، ثم يعيده لعناقه مع جيبه الأمامي. يطارده الشبح مرة أخرى، يفرك عينيه من خلف نظارته الثمينة، لكن ذلك لا يمنع تناسخ شبحه بعدد حضور قاعته.
تستبد أسئلته بعقله، يلمح ثرثرة بين مقاعد الإعلاميين، فيشك أن أحدهم احتال على النظام الذي وضعه لمنع تباهي الصحفيين المخبولين بجدلهم، بضبط إيقاع الأسئلة بالاتفاق مع مندوبي الصحف الرئيسية، أو إرسالها مكتوبة إلى منصته.
يداعبه شبحه تلك المرة مرتديا وجوها لموظفين تجاوزهم نفاقا، ودهسهم بقاطرة طموحاته وصعوده. أحدهم وشى بإحدى محادثاته الشخصية عن مديره، فنال هو ترقية استثنائية، ونظرة عتاب من ضحيته قبل مغادرته الأخيرة للمبنى، وثان دس تقريرا عنه، وآخر دبر له فضيحة فساد أخلاقي.
عادت أشباحه لهيئتها الأولى، ولكن رافعة شعارات رنانة اعتاد عليها ماضيا، حتى ثبت عطبها، فخلفها في ركن قصي من عقله وقلبه، وعليها لافتة «منتهي الصلاحية».
تعيد له الورقة دهشة مرسومة على وجوه أصدقائه القدامى، وأسئلتهم حول وظيفته الجديدة. توقفوا كثيرا أمام مسماها، «بائع كلام»! هكذا قال بلا مواربة، هو خريج كلية التجارة الذي عمل بالتجارة حينا، فباع كثيرا من البضائع، وآخرها الكلام، و«كله تجارة، والتجارة شطارة». هكذا سوغ لهم اقتحامه هذا المجال الجديد.
سألوه يومها عن متطلبات وظيفته، فأجاب بأريحية يفتقدها الآن: كالتجارة؛ كلام معسول، ووجه واثق، وقدرة على التسويغ المستمر. ولا تنسوا البذلة، والشياكة، حتى الحذاء اللامع. وكتب في التنمية البشرية تستحضر عناوينها في حديثك، ولا داعي لقراءتها، فيمكنك البحث عن ملخصات لها، أو حتى قراءة أغلفتها الخلفية.
يتخيل الآن وجوههم وهم يتابعونه على شاشات التلفاز وكل تلك الميكروفونات تملأ منضدته، فيقنع نفسه بأن الغيرة دفعت أحدهم لاقتحام حضوره بهذه الورقة اللعينة.
وقع أسيرا لغيابات توقعاته، تخلى عن ثباته، فحاول أن ينهي المؤتمر، وأن يعود إلى مكتبه، فاتسعت الهوة أمامه، واختفت الدرجات المخملية من تحت قدميه.
Unknown page
التوقيت المناسب
تمسك بهاتفها المحمول، تحتضنه بشدة، تراجع مستوى الصوت مرات للتأكد من ضبطه على أعلاه، ثم تتلمس موضع سماعات أذنيها التي فرضتها عليها سنوات عمرها السبعون.
تنير أضواء شقتها لتخيب آمال «سلطان النوم» في الاستفراد بها. تحتمي بفنجان قهوتها الثاني، فتستجديه لنصرتها عليه.
تنتهي من فنجانها، فترده إلى مكانه بالمطبخ، وأثناء عودتها تطرق الباب الوردي؛ جريا على عادتها التي واظبت عليها رغم غياب ساكنة الغرفة. تتنهد، وتستنشق بعمق لتطهر رئتيها بعطرها المحبب.
تختلي بالألوان والكتب المبطنة بلمسات الأنامل الصغيرة، وتعيد ترتيب الأوراق المحتفظة بوجهها الفوضوي بفعل الشخبطة والحروف المتعرجة.
تبحث عن قطع «البازل» لتكمل أحلامها، ثم تصفر مع القطار ليبدأ رحلته للعودة إلى سنوات حلوة، بطعم البراءة حينا، وبالصراخ والمناكفات حينا آخر.
تتبادل الأحاديث مع أبطال القصص المتراصة التي تعاتبها لغيابها الطويل، وتستعطفها بإزاحة غبار سنوات زادتها شيبا، فتقدم لها الاعتذارات، وجولة تنظيف مجانية.
تطلب من بطلاتها أن تهبها بساطا سحريا يرسلها إلى شواطئ المحيط البعيد، أو أن تمنحها حكايات تختصر بها دقائق من لياليها المملة، لكن البطلات يفاجئنها بنوبة نعاس طويل لن يخرجها منه سوى لمسة من «الأميرة الوردية».
تسقط من الكتاب المصور الكبير صور صغيرة مقصوصة ل «ست الحسن»، بشعرها الطويل الذي طالما حملها لأحلام أكثر براحا، ثم يعيدها مرة أخرى لأحضانها في موعدها. أما اليوم فهي تود لو تكتفي بجدل ضفائر «الجميلة»، أو حتى قصه على الطريقة الحديثة؛ لعل ذلك يمنع رحيلها مرة أخرى.
على الحوائط، ما زالت الآثار محفورة بفرحتها المقاسة بالسنتيمتر حتى جاوزت المائة بقليل، فيما استطالت فرحتها اليوم بعيدا عن عظام كتفها الهشة.
Unknown page
تدق ساعتها وتعلمها بانتصاف الليل، فتتذكر هاتفها. يجرها عكازها لمكانه، فتعيد النظر إليه، فترجع خائبة.
تنتظر وتنتظر، وتمني نفسها: ربما الساعة غير مضبوطة، أو لعل الخطوط مشغولة لضغط الاتصالات، تنتظر فيما يزحف خوفها كالسوس ينخر جسدها كآلة صدئة. تنتظر وتنتظر، ربما تأتيها «ذات الرداء الوردي» بكعكها المحبب.
يرن الهاتف الأرضي، يظل صراخه صاخبا، والجسد على مقعده منتظرا، وفي يديها تهمد سماعات أذنيها، بينما يطل ثعلبها المكار مستعدا لانتفاضته.
نصب تذكاري
كنت الشاهدة الأولى، نطفة في رحم الكون. عشت مخاضا طبيعيا طويلا، دوامات متتالية من الانشقاقات والالتحامات، فراقا ثم لقاء يغريني بديمومته، حتى يفاجئني انفصال يبدو لي حتميا هو أيضا. ترتطم بك تساؤلات عدة: هل كنت ذرة من جبل، أم قطرة من أول أمطار عرفها الكون وارتوى بها؟
أحاول أن أشحذ ذاكرتي البعيدة؛ حينما كان الجميع عطشى، وشهدت بداية الارتواء، نقطة تلو أخرى، زخات متتالية، حتى تكون الطوفان الأكبر.
تمر اللحظات كألف سنة مما تعدون؛ حيث الكون ينكشف رويدا رويدا، يفرك عينيه الناعستين، لأكتشف أنا آخرين يشبهونني، ولا يكتفون. وبحركة إعجازية، تجمعنا، ولم يكن الأمر أكثر من مجرد كن فيكون.
حل الاستقرار أخيرا، فلم يعد للزمن قيمة، غرور يأخذني لمساحات متتالية من الأبيض. إحساس بالتفرد المحسود، ولكنه يلبسك شعورا غير منطوق بالوحدة؛ حيث تطاولك كل المواسم، ويصبح هدير الأمواج رفيقا مخلصا.
لا حدود، حتى يأتيني الزائر الأول، كالعروس البكر، أبتسم خجلا، فيفض بكارتي بمراسم بدائية، فأحمل أول الأسماء، عشقا وولها، وأعاهده وفاء، ولكن يأتيني آخرون فلا تحفظ حرمتي، ويكثر الآثمون.
زيارات متتابعة تنطق بالضحكات والابتسامات البلهاء واختراق للوحدة يبدو، للوهلة الأولى، محببا، ثم ما يلبث أن يظهر وجهه الشرير، حينما يطول التدخل، وتنتهك الخصوصية بتشويه متعمد للروح تحت مسميات زائفة للعشق.
Unknown page
ويزداد الكون من حولي رثاء، وتتوالى الأنفاس، ثم تتقطع وتختنق بفعل «الأسود»، ويزداد الاحتكاك، وتتآكل مساحات «الأبيض»، ويحتل «الأصفر» بغروره وصخبه، ثم تختلط الألوان بعنفوانها.
يرتفع المدى جنونا، وجلبة تحتلك، وترتطم حوافك باليابس. وعلى المدى، تحتل الصورة الناقلات العملاقة، وأطنان الأسمنت، وسبائك الحديد. يستبدل بهديرك صخب الرافعات، والشاحنات، وناطحات تأكل روحك، حتى تصبح بالنهاية مجرد «نصب تذكاري» على بطاقات المعايدة.
فقاعة الهواء
يتناول بجرعة واحدة كوب الفوار. تداعب فقاعاته أنفه، فيتمنى استمرار دغدغاتها بعض الوقت؛ لتخفف حدة ضيقه. تفاجئه نوبة تسريح لغازات فمه، فيشعر بقليل من التحسن. «كان علي مقاومة إغراء تلك الأصناف الدسمة، والانصياع لنصيحة الطبيب.» هكذا وبخ نفسه، رغم يقينه بعودته لمجاراة ضعفه الأول.
يلقي النظرة الأخيرة على مظهره، فيسعد بنجاحه في عقد حزام بنطاله أضيق بثقبين، ليقلل محيط كرشه المتدلي بقدر الإمكان، لكنه لم يستطع التمادي في طموحاته مع إلحاح صراع أمعائه، فترك سترته مفتوحة؛ لعلها تهدأ .
بخطوات متراخية، يتجه إلى القاعة. يتمنى لو يتخلص من ثقل غازاته نوبة واحدة. يستقبله أحد المنظمين، ويدله على طاولته التي يتفاجأ بجهله معظم وجوه ساكنيها، فيلعن المنظمين لهذا الفخ.
يتابع، بحقد محبوس كغازاته، ذلك الرابض فوق منصة سطوته وهو يتبختر في خطواته كطاووس، يصافح كبار المدعوين ويصاحبهم لطاولته، فيما يكتفي بتحية باردة له، فيتأسى لعراب كان يوما خادما مطيعا، يقدم فروض نفاقه. «يا لغبائه حينما نصبه نائبا له!» تمتم لشيطانه.
يهمز لجاره بأناقة مضيفه التي أصبحت موضع نميمة في صالونات الصحافيين، ويتساءل، ببراءة مصطنعة، عن أي نوع من صبغات الشعر يستخدمها، غامزا له بأنه لاحظ انخفاضا في مستوى ذراعه اليسرى، ربما كان سببه ثقل ساعته الذهبية المهداة له في زيارته الأخيرة لدولة النفط السخية في عطاياها «لأصدقائها».
يتمنى لو كان بسطوته فيطلق أسراب هداهده بين الطاولات، ليشيعوا بين مريديه كيف أن الصحيفة المرموقة انخفض عدد قارئيها بعد «طلاقه» لها، وأن موقعه المؤسس حديثا تعداها في مؤشر «أليكسا»، وكيف أن الغربال الجديد يحاول جاهدا شد سير العمل، حتى إنه اضطر إلى رفع الرواتب لضمان الولاء.
تلح عليه أمعاؤه المثقلة، فيتناول جرعة فوار أخرى. تمنى لو يصبح، مثل فقاعات دوائه، خفيفا وشفافا، فيرتفع إلى ذلك النجم الساطع على شاشاته الفضائية؛ ليزيح منافسيه. يتذكر صباه؛ حينما كان يستمتع بلعبة الفقاعات، وخاصة عندما كانت تنفجر في وجوه أصدقائه. لم يكن يعلم حينها أن عملية التنظيف تعتمد، أيضا، على الفقاعات وقدرتها على فصل الأوساخ عن سطح الملابس. ربما احتاج أن يكون إحدى تلك الفقاعات؛ ليطهر القاعة من نفاقها.
Unknown page
تغلق الأنوار، ويهدأ الصخب. تنار شاشة كبيرة، ويبدأ المضيف سرد نجاحاته خلال العام الذي ربض فيه على قمة مؤسسته، وعدد مراسليه ونجوم السياسة الساطعين على صفحات جريدته. تنفجر فقاعاته، وتتحرر معدته، ويتخفف في خطواته فور انطفاء الشاشة، وهو يسارع بمصافحة نجم الحفل، وتحل ابتسامة عريضة على وجهه أثناء نوبات التصوير.
انتصار
زفرة عميقة يطلقها، يخفف بها ملله، يكره هذا الإحساس الرطب، يستغيث بأربعه، وبخطوات متثاقلة يتحامل عليها ، تتلمس أطرافه الأولى حرارة الحبيبات الناعمة، فتبعث في نفسه بعض الدفء.
يداعب الوجه السخي، فيرسم خطوطا منحية وأخرى متكسرة، يمنح أطرافه حدودا لا متناهية، يغوي بها هذا القرص المتلألئ في سماه، المزهو بحرارته، يطارده بنظرات مضطربة، حتى تفاجئه موجة تزيحه خطوات، فتخفف من حرارة عجيزته.
على بعد ذراعين، يتداعبان، يرشان المياه من مسدس بلاستيكي، فتتناثر ضحكاتهما مع حباته، وبقدر صفائها. يد تمتد للخصر الذي امتلأ بعض الشيء، فيما تلامس أطراف اليد الأخرى نبتتهما الصغرى.
على بعد موجتين، يلمحها بجسد منتفخ، تغريه التواءاتها، زهوها السخي بألوانها، يجذبه صمودها المنفرد، يتمطى مرة ومرتين، فيخزيه ضعفه. يتنهد بضيق وبرجاء، يستعطف تلك الموجة الماردة، تقربه خطوة، فتداعبه الألوان وحلم التهادي. يطلق النفس عميقا، ويشد العزم، فيخبط الوجه المتلألئ من تحت أقدامه، ويزيح بعصبية أطرافا تحاول منع مروره.
على وقع الضحكات يداعبها. يهمس في أذنيها: هل تتذكرين المرة الأولى؟ تجيبه بنظرة خجلى؛ تلك النظرة التي طالما سحرته وشاكسته. تتلامس الأطراف تلك المرة فتتدافع ضربات قلبها، فلا يزال يحتفظ بحقه الأزلي في دغدغة مشاعرها.
تسقط بفعل موجة غادرة فيضجان بالضحك، ترتسم على وجهها ملامح الغضب حينما تخطو أخرى أمامهما بملابسها التي تكشف مفاتنها، فتقارنها بردائها الذي صار فضفاضا ليخفي خصرها الذي أثقل محيطه بضعة أرطال.
تلمح نظرة جانبية للساق الممشوقة الخالية من الزغب، كإحدى موديلات الإعلانات، يحتدم صراعها الداخلي، فتعقد النية على مشادة حادة. «ماما! بابا!» يلمحانه بنصف جسد، يرفعه الموج، فيحجبه عنهما، يظهر ظل كف مرفوعة كاستغاثة. وبنظرة مذعورة، يبدآن العدو، حتى إذا ما هدأت الموجة ظهر هو بقدمين متشبثتين داخل عوامة، وعلى وجهه علامات الزهو والظفر.
قيلولة
Unknown page
حينما تحل تلك الساعة أتذكر صيحات أمي الغاضبة، ودعواتها التي تصلنا رغم وجهها المكور تحت وسادتها، تأمرنا بالخضوع للنوم؛ احتراما لعادتها اليومية المقدسة.
كنا نحن الثلاثة، قبل أن يضاف إلينا رابعنا وخامسنا، نتحايل على محاولات «إرغامنا»، فنشد ألحفتنا فوق رءوسنا، بينما تتواصل ألاعيبنا أسفلها، تتداعب أطرافنا الممتدة عبر أبعاد سريرنا الأربعة، فنخلق من ملاءتنا أمواجا نركبها كقراصنة عتاة.
نتصارع أينا يسبق في لسع أحدنا أثناء لعبة «صلح»، محاولين إخفاء رنات ضحكاتنا ونحن نتبادل الغمزات لمزيد من التمويه. وحينما تحثنا أمنا، بضربة من أطراف قدميها، على الصمت، نبدأ في اختلاق النكات والمقالب، متخذين من مغامرات توم وجيري قدوة لنا.
تتساقط أعين إخوتي تباعا تحت وطأة سلطان النوم وضربات أمي المتتابعة من خلف ستائر أحلامها، فيما يستعصي النوم على ذهني. أستلقي على يميني؛ تيمنا بنوم «الملائكة والرسل» كما حدثنا أستاذ التربية الدينية، فأتساءل: هل تنام الملائكة حقا مثل البشر؟
أزيح البحث عن الإجابة جانبا، حينما تداعب عيني خيوط أشعة الشمس وظلالها الترابية المتسللة عبر فتحات شرفتنا نصف المغلقة، أعيق مرورها بيدي، كما أفعل مع أسراب النمل في حديقة مدرستنا، ثم أتابع خيوطه وهي تواصل مرة أخرى مسارها.
ألمح فراشة تنتصب على ورود ستائرنا الزائفة، أتابع خيبتها ومحاولاتها امتصاص رحيق كاذب لن يسد رمقها.
أجرب تلك المرة طريقة نوم الملوك والأمراء، فأستلقي على ظهري. لا أتذكر أين قرأت تلك المعلومة، لكنني أظن أنني تقمصت بنجاح دور الأميرة مرات عدة، فأدخلت تعديلات على مأساتها، وجعلتها أكثر جرأة في مواجهة زوجة أبيها وبناتها، وأخفيت تسجيلا صوتيا لهن في طيات ملابسي لم يستطعن إنكاره أمام والدي، فخرجن بلا رجعة من مملكتي.
على الجدران، تتراقص خيوط ستائرنا مرة أخرى. أتبع نصائح مدرسة الرسم، فأرسم بها وجوها لحيوانات وبشر بملامح فضفاضة. تلك أذن قنفذ، وأخرى لحمار وحشي، وذلك أنف مفلطح وجبهة بارزة. للأسف، لم تخبرني كيف أبث فيها الروح على الورق؛ فقد سحبوا الحصة اليتيمة أسبوعيا لصالح مادة الجغرافيا لإلحاح المنهج، ولأن الرسم ليس مادة نجاح ورسوب!
لم يبق أمامي خيار إلا الجهة اليسرى. هل أجربها رغم لعناتها حسب مفتينا وكتبنا الدينية؟ تلفحني أنفاس أمي الهادئة كزخات الندى الصباحي، فأعجب لحرصها على ساعة قيلولتها مهما كانت مشاغلها، فيما فشلت محاولاتي في إيقاف صرير الأفكار في ذهني.
اليوم، وبعد عشرين عاما، في الساعة نفسها، أستلقي على كرسيي الهزاز بشرفتي التي جعلتها مرتعا للفراشات، تنهل من زهورها كيف تشاء، وبينما عيني لا تزال عصية على سلطان النوم، تتهادى على الأريكة المقابلة أنفاس أمي مستسلمة لأشعة شمس خريفها الوادعة.
Unknown page
جمهورية المبروك
بصوت جهوري، تفاجأت به حارتنا في عصر يوم شتوي. كلماته همهمات يطلقها لسانه الأعرج، كأنه يحدث نفسه أو أشباحا لا يراها غيره. أزعجنا صوته الأجش، فلاحقناه بلعناتنا.
اعتدنا حضوره في الوقت ذاته يوميا. نطلق التعويذات بمجرد ظهوره، وحتى رحيل آخر تردد لصدى صوته بالشوارع المجاورة. بظهوره تتوارى الحوامل خشية على أجنتهن، فيما تتبعه شياطين الشوارع؛ يقلدونه حينا، ويطلقون قذائفهم الرملية حينا آخر.
تعددت معاركه التي كانت لها جماهيرها من صبية الشارع وسيدات الحارة اللواتي يتلهفن لحكايات يشغلن بها ثرثراتهن الصباحية عبر الشرفات.
في هذا اليوم كانت المعركة أكبر، وأشعلتها الشائعات، وزادتها سخونة، عندما تعثر به «عم بدوي»، صاحب أحد المحلات، فأطلق العنان لسبابه، ووصف قدومه بالشؤم.
وفي الليل، كان صراخ «عم بدوي» يستبيح السكون ساعات عدة، حتى سكت صوته تماما. احتار الأطباء في تشخيص مرضه، فقالوا إنه التهاب حاد بالحنجرة، ثم استدركوا: بل في الأحبال الصوتية.
وحينما رفض الألم الخضوع لتوسلات المضادات الحيوية، التمس الأمل في الأعشاب الطبية؛ وهو ما أسعد عطاري المنطقة الذين تفننوا في إبداع الخلطات والوصفات، لكن ذلك لم يجد في نهاية الأمر.
وفي صلاة جمعة، تحدث إمام المسجد عن عقوبة الظالمين، وردد المثل الشعبي: «يا بخت من بات مظلوما، ولم يبت ظالما.» وحذر المصلين من أن «دعوة المظلوم لا حجاب بينها وبين الخالق».
يومها، وفي فترة العصاري، حين يحلو لعم بدوي، بعد تناول الغداء، الاستلقاء على سريره وتناول شايه الذي استبدل به منذ مرضه كوبا من الأعشاب التي جلبتها زوجته من أسوان، فاتحته امرأته بما في نفسها من شكوك.
على استحياء، لمحت له بأن مرضه ربما يكون تكفيرا عن ذنب، أو إشارة ربانية. وحينما استجابت نظراته لشكوكها، ذكرته صراحة بمعركته مع الرجل المجذوب، ورده على سبابه الذي لم يتجاوز الهمهمات التي كانت، حسب تفسيرها، دعوة في ساعة «مفترجة»، ثم طلبت منه بصراحة تطييب خاطر المجذوب.
Unknown page
أمام إلحاح المرض وحديث أم العيال، و«وقف الحال» الذي أصاب البيت، خضع «عم بدوي»، وعند أول بشارة لقدوم المجذوب فوجئ أهالي الحارة بلقاء حار، وأحضان وقبلات، ثم دعوة الرجل «البركة» إلى الغداء.
لم يتم عم بدوي ليلته الثالثة على الصلح إلا وقد تعافى صوته، وعادت إليه شخطته التي كادت ترج البيت والدكان، وأطلقت زوجته زغاريد في وضح النهار، وكأنها أرادت بها محو صراخ الليل وألمه.
أغلظ «عم بدوي» الأيمان ببركة «شيخنا المبروك»، وذبح شاة على حس «بركته».
ومن حينها تبدلت الحال؛ ففي ساعة مرور الرجل «المبروك» يترجل الرجال، ويتوقف البيع والشراء، وتتابع النساء من شرفاتهن الموكب المبروك.
بعد أسابيع، دعا «عم بدوي» كبار الحارة إلى اجتماع عاجل في دكانه بعد صلاة العشاء التي أصبح مواظبا عليها، بل وأجبر صبيته على إغلاق دكانه لحين إقامتها.
افتتح «بدوي» حديثه بمقدمة طويلة عن عمل الخير، ووجوب الثبات عليه، وأهمية إدخال البركة للحارة ولأهلها جميعا، ثم أطلق اقتراحه باستضافة «المبروك» بشكل دائم، وأن يقام له مجلس في أحد أركان الحارة.
في البداية تلعثم الحضور، واعتبروا ارتباطه بالرجل «المبروك» مبالغا، لكن «عم بدوي» أسكتهم بتذكيرهم بمرضه ثم شفائه، بعد حيرة الأطباء، بعد الصلح على مسمع ومرأى من الجميع، مختتما حديثه بتحذير من ويلات رفضهم.
كانت موافقة بدت في أول الأمر على استحياء، ثم تحولت إلى حماسة تجلت في اجتماعات تالية للحديث عن المكان المناسب، وتأثيثه، وتوزيع المهمات في دوريات استمرت ليلا ونهارا.
الوحيد الذي سخر من مجهوداتهم كان «كبير عائلة المتعلمين»، «الأستاذ مصلح»، الموظف المحال على المعاش، الذي حصل على لقبه لأنه الوحيد الذي حرص على تعليم أبنائه الثلاثة حتى وصلوا إلى الجامعة، وتخرج الكبير فيها.
لم يقتنع «الأستاذ مصلح» بحججهم وحماستهم، فاحتجب عن اجتماعاتهم، ونفر من تصديق كرامات «المبروك»، فانزوى في ركنه المعروف من المقهى، وانفض الجمع من حوله، وتحولت علاقته بأهل الحارة إلى مشاحنات مكبوتة، يثيرها أصحاب المحلات، حين مروره، بتعمد الدعاء للمبروك بصوت مرتفع.
Unknown page
أثناء جلوسه بالمقهى ذات صباح ، وبعدما استقر مقام «المبروك»، تجرأ «مصلح» وقرأ خبرا من جريدته عن القبض على نصاب مشعوذ. استحال الخبر مشاحنة كبيرة، وبما أن «الأستاذ مصلح» «صاحب ملك» في الحارة، فقد انتهى الأمر بقرار جماعي من أهل الحارة بطرد بائع الجرائد الذي اعتبروه مشاركا في إشعال «الفتنة» بالحارة، وحظر بيع الصحف نهائيا.
تبدلت حال الحارة؛ بدءا من اسمها الذي حمل من «البركة» نصيبا. ولم يكن «المبروك» يرد سائلا، ولكن إجاباته كانت دائما همهمات وأشباه كلمات، يفسرها كل حسب فقهه الخاص، فصارت الحارة مبكى للتائهين الباحثين عن خلاص من مأساتهم، ورشد لتيههم.
لم يعد للحارة شاغل سوى «المبروك» وكراماته التي لا نعلم يقينا صدقها من كذبها، وصارت حكاياته حاضرة في السهرات، مثل فك نحس ابنة «أم محمود»، ذات الخمسة والعشرين ربيعا، التي توسلت إلى «المبروك» أن يمر بعتبة بيتها، لعل «ابن الحلال» يأتي ويطرق بابها، وهو ما حصل بعد أيام. تلك البركة جرأت صبي المقهى المشاغب على اقتراح أن يرش من ماء استحمام المبروك على عتبات أبواب الحارة للتبرك، وهو ما نفذه الجميع.
تحولت الحارة إلى بياض تام، بلون الجلابيب التي اتسع نطاق مرتديها، حتى حجب الرؤية. بياض لم يعد يحتمله «الأستاذ مصلح» وأسرته، وهو الذي اعتاد اختلاف الألوان والأشكال، فحزم أمتعته، بينما تظاهر رجال الحارة ونساؤها بأنهم لم يلحظوه، فرحل دون سلام أو وداع، ومع آخر شعاع لمصابيح سيارة الأجرة التي ركبها، تنهد الجميع ورددوا: «استراح وأراح.»
صارت الحارة وكأنها تدور في حلقة دروشة لا تنتهي إلا بدوار وشعور بالغثيان. كم استمر الأمر؟ وكم بقي «المبروك» بينهم؟ لا نعلم. الحكايات تؤكد وجوده سنوات طوالا، حتى جاءه يوما بعض المتوسمين حلولا لخيباتهم، وحينما هموا بالدخول وجدوه جالسا متقوسا، حاملا رأسه بين ركبتيه، فبقوا على بسطته ساعات طوالا. وحينما قلقوا لاستمراره على وضعه، اقترحوا اقتحام خلوته.
وبعد مداولات على من يتولى إيقاظه، تطوع صبي المقهى بهزه، فسقط على الفور بين قدميه. خرج الصبي لاهثا ينعيه لقومه، فركبهم الغم والحزن. وحينما أفاقوا على حقيقة الخبر انشغلوا ثانية بدفنه، وتساءلوا: هل يغسلونه أم يدفنونه على حاله؟ وكيف يخلعون ثيابه ويكشفون عورته؟ وهل هم أهل لذلك؟ ثم دثروه بعباءته، وأهالوا عليه التراب حينما بدأت رائحة الموت تخيم على المكان.
عاشوا حدادا طويلا، لم يفارقوا فيه عتبته، ظلوا يرددون حكاياته وكراماته؛ ربما خشية النسيان، أو فقدان ما كان يميزهم. وبعد تفكير، وحينما فشلوا في استيعاب فراقه، أقاموا عند قبره مقاما ظل الناس يحجون إليه، وتطوع صبي المقهى بحراسته.
وبعد أسابيع، استيقظت الحارة على صوت جهوري يشبه صوت «المبروك»، وحديث يشبه كلماته المتقاطعة. ظنوا، وهم يتخبطون في الظلام في طريقهم إلى مقامه، أن معجزة أخرى انشق عنها قبر «المبروك». دخلوا، فلاحظوه في عباءته يدور في حلقات متتالية، ووجهه للسماء يطلق همهماته، وحينما بدأت عيونهم تستبين الوجه، رأوا صبي المقهى الذي أخبرهم أن «مسا» من المبروك قد جاءه ومنحه عباءته وبركته. ورغم المفاجأة، انفرجت أسارير الرجال لعودة «المبروك» إلى حارتهم.
قطعة سكر
بدأت كمداعبة منك، حتى أدمنت أنا تلك العادة، أحمل إليك مشروباتي، تزحف إلى شفتيك لتختلس منها قطعة سكر. تضحكين، وتسألين بدلال عمن سرق قطعة السكر، وخبأها بين حباتك اللؤلئية. أغار حينها من الكوب لحظه الوافر في أن ينهل من حلاوتك بلا رقيب.
Unknown page