سلاسل الذهب
للإمام بدر الدين الزركشي
٧٤٥ - ٧٩٤ هـ
تحقيق ودراسة محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي
تقديم
د. عمر عبدالعزيز محمد. . . الشيخ عطية محمد سالم
1 / 1
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الثانية
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
تحقيق الكتاب
هذه الرسالة لنيل الشهادة العالمية العالية "الدكتوراه" نوقشت فى ١٦/ ٨/ ١٤٠٤ هـ ونالت مرتبة الشرف الأولى
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بقلم فضيلة الدكتور عمر عبد العزيز الأستاذ فى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد للَّه رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وأصلى وأسلم على نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد.
فإن من مهمات الغايات المتغياة فى التحقيق، والأهداف البارزة المتوخاة فيه، ثبيت النص صحيحا، وتضويئه، وتيسير فهمه بإذن اللَّه، وتسهيل الاستفادة منه بتوفيق اللَّه.
وهذا فى نظرى قد تحقق فى تحقيق فضيلة الأخ الدكتور محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطى رئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية فى المدينة المنورة لكتاب من مهمات كتب أصول الفقه، هو كتاب "سلاسل الذهب" للعلامة بدر الدين محمد بن بهادر الزركشى المتوفى ٧٩٤ هـ، وتأتى ثمرة لجهده المبذول فى سبيله، وجاء نتيجة لعمله الذى قام به.
وإذا كان ذلك قد تطلب إمكانات علمية من شأنها بتوفيق اللَّه أن يصعد بالمحقق إلى مستوى هذا العمل، وأن تتوفر لديه أوليات علم أصول الفقه من علوم اللغة العربية وغيرها فى شتى العلوم فإنى أعتقد أن اللَّه ﷿ قد وهب محققنا الفاضل هذه الأوليات، ومنحه تلك الإمكانات، فأجاد فى عمله، وأجاد فيه.
ونظرة واحدة فى أى مسألة من مسائلة المهمة تعطى صورة واضحة لما بذله المحقق من جهد، وما يملكه من رصيد علمى.
جزاه اللَّه خيرًا ووفقه وإيانا لما يحبه ويرضاه.
وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
عمر بن عبد العزيز
فى ٢٤/ ١١/ ١٤١٠ هـ
بالمدينة المنورة
1 / 3
كلمة بقلم صاحب الفضيلة الشيخ عطية محمد سالم قاضى تميز بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على سيدنا رسول اللَّه ﷺ
بيد الشكر والعرفان وعين الرضا والإحسان تلقيت من فضيلة الأخ الدكتور. محمد المختار بن والدنا وشيخنا بل وعوض والدى العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطى الذى نشأت فى ظله وأولانى جل عنايته ﵀ مما أورثنى عنه مننا عظيمة وأيادٍ كريمة. ﵀ رحمة واسعة. وجعل فى أبنائه أحسن خلف لخير سلف وهذا ولده الأكبر الذى كساه اللَّه حلل العلم ووقاره وجمال الآداب ومكارم الأخلاق مما تميز به عن أقرانه. قد التزم جادة والده ونسج على منواله وجد واجتهد فحصل بفضل اللَّه على شهادات الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية مع ما كان حريصا عليه من التزود والنهل من بحار علوم والده.
وهذه رسالة الدكتوراه قد شرفنى بنسخة منها. وعلمت باعتزامه على طبعها وقد أحسن الظن لى وكرمنى بإتاحة الفرصة لى بعمل تقريظ لها. فجزاه اللَّه أحسن الجزاء.
وقبل البداءة بذلك فهنا اعتذار. وتبرير اعتذار إليه أنى لم أكن ممن وصلوا إلى مستوى تقريظ رسائل رفيعة المستوى كهذه. واعتذار إلى القراء الأفاضل أن أكتب عمن له على مثل هذا الحق.
ولكن المبرر لذلك هو ارتفاع صوت الحق من صميم عمله العلمى إذ أن ميزان العلم لا يتأثر بالعواطف. ولا يترجح بالرغبات.
1 / 4
ومعلوم أن شرف ورفعة العلم من شرف ورفعة المعلوم. وموضوع هذه الرسالة وهو "أصول الفقه" يجمع العلماء على رفعة شأنه وعلو منزلته فهو بقواعد الأحكام أساسها. وهو لجميع العلوم ميزانها. ومما سمعت من والدنا الشيخ محمد الأمين ﵀ أن علم الأصول يتناول جميع العلوم فمن علوم القرآن العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمكى والمدنى.
ومن علوم الحديث كذلك وطرق الترجيح وأحوال الرواة وأحوال المجتهدين ومناهج الاجتهاد وولات الأوامر والنواهى وما إلى ذلك.
ومن علوم العربية متن اللغة وتصريف الكلمة ومبنى الأساليب فى علوم البلاغة ومن علوم البحث والجدل ترتيب الأدلة وميزان الترجيح. وكل ذلك خدمة ووسيلة لمعرفة واستخراج الأحكام الفرعية من عمومات أدلتها الإجمالية مما لا غنى لطالب علم عنه حتى قالوا جهلة الأصول عوام العلماء.
وهذا الكتاب الذى قدمه الباحث يعتبر فى هذا العلم قمة شامخة وشمسا مشرقة وبحرًا رائغًا. جاء فى عهد متأخر فاستوعب كل عمل متقدم. وقد يتميز بارتكازه على أسس ثلاثة أساسية الأصول الفقه: علم الكلام وعلوم العربية. والفقه. مع اختصاص مؤلفه بسعة علومه وإمامته فى عديد من العلوم. ظهرت آثار ذلك فى هذا الكتاب حيث زادت مراجعه فيه على ما فوق مائة مرجع.
وهذا مما يلزم الباحث أن يشمر عن ساعد الجد ويركب متن الصدق وقف العزم ليرتفع إلى هذا المستوى العلمى. ويساير هذا الإمام فى هذا العمل الجليل. وقد كان كذلك وللَّه الحمد.
وقد ظهرت آثار ذلك بفضل اللَّه وتوفيقه فى عمله فى القسمين القسم الدراسى حيث أبرز حقائق حياة المؤلف وأوضح معالم المجتمع الذى نشأ وعاش فيه والعصر الذى شهد أحداثه تتلاطم فيه تيارات السياسة الغامضة والحياة المضطربة وكيف كانت المؤثرات حول المؤلف من إيجابيات وسلبيات ودون هذا التراث أكثر من ثلاثين مؤلفًا فى العديد من الفنون والعلوم وفى القسم التحقيقى ساهم فى المنهج
1 / 5
العلمى. فقام بتعريفات تركها المؤلف وبتفصيل ما أجمل. حين يورد المؤلف قوله: وفى المسألة خلاف أو أقوال ولم يعرض صور الخلاف ولا يسوق الأقوال فيكملها الباحث بل ويساعد الطالب عندما يواجه عقبات الخلاف ويقف فى حيرة مترجح ما يراه راجحًا وقد يقتصر المؤلف فى بعض المسائل على عرضها من بعض جوانبها وتبقى فى حاجة تجلية بغير الجوانب فيكمل الباحث تلك الجوانب وكذلك شرحه للمصطلحات العلمية وخاصة فى علم الكلام مما ليس لكثير من الطلبة إلمامًا بها.
وهذا العمل كله بمثابة أضواء كاشفة على الكتاب تظهر أسراره وتكشف أستاره وتشع أنواره وهى كذلك مما يبرز شخصية الباحث. وهو لذلك أهل ولقد عرفته حفظه اللَّه منذ نشأته حيث حفظ كتاب اللَّه فى صغره وتلقى علوم الرسم والتجويد فى مسقط رأسه. ولما قدم إلى والده ﵀ هو وفضيلة أخيه الدكتور عبد اللَّه حصلا على الشهادة الدراسية الأولى فى العلم الأول ثم التحقا بالمعهد العلمى التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود بالمدينة. فحصلا على ثانوية المعهد وليسانس الجامعة ثم الدراسات العليا وحازا شهادة الليسانس ثم الدكتوراه. مع ملازمتهما دورس والدهما ﵀ ومن ظواهر ما اكتسباه من منهجية والدهما ﵀ أن أحدهما اتجه إلى الأصول وهو الدكتور المختار صاحب هذه الرسالة، والآخر اتجه إلى التفسير وهما المادتان اللتان كان ﵀ يوليهما عنايته ولكنهما بهذه المنهجية أكمل بعضهما بعضًا فى مواصلة حياة والدهما العلمية وإنهما بحق عندى ليمثلان الشخصية المثالية فى طلب العلم والمثابرة عليه وباللَّه التوفيق.
عطية محمد سالم
٢/ ١٢/ ١٤١٠ هـ
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
شكر وتقدير
الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عبد اللَّه ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد:
فأتقدم بجزيل الشكر والامتنان والتقدير لأستاذى الفاضل العلامة المتواضع فضيلة الدكتور عمر بن عبد العزيز محمد الذى كان لى الشرف فى إشرافه على هذه الرسالة، فبذل جهده ووقته فى توجيهى، وأمدنى بملاحظاته المفيدة وتوجيهاته القيمة السديدة، فكان له الفضل بعد اللَّه تعالى فى إخراجها إلى حيز الوجود، وبهذا المستوى، فجزاه اللَّه خير الجزاء وأمدّ فى عمره، ونفع المسلمين بعلمه.
كما أشكر لكل من ساعد فى إنجاز هذه الرسالة وخاصة القائمين على مكتبة الدراسات العليا بالجامعة.
كما أشكر للجامعة الإِسلامية والقائمين عليها سائلًا المولى ﷿ أن يوفقهم لما فيه صلاح هذه الجامعة دنيا وأخرى.
* * *
1 / 7
سبب اختيار الموضوع
بدافع الرغبة فى إحياء تراثنا العظيم أخذت أبحث فى المخطوطات فوقع اختيارى على كتاب "سلاسل الذهب" للإمام بدر الدين الزركشى ﵀ وذلك للأسباب الآتية:
١ - أهمية الكتاب، فإنه بَحَثَ الأصول من ناحية لم يُبحث منها من قبل حيث ركز بحثه على ثلاثة علوم ذكر أنها مادة أصول الفقه، وهى علم الكلام، والعربية، والفقه.
٢ - لكونه من المخطوطات النادرة ولم يسبق نشره.
٣ - لأن مؤلفه يعد من الأئمة الأعلام فى جميع الفنون وخاصة أصول الفقه.
٤ - لأنى أريد أن يكون بحثى شاملًا لجميع مواضيع أصول الفقه، ولا يمكن ذلك إلا بتحقيق مخطوطة مختصرة مثل هذا الكتاب.
٥ - أن المكتبة الإسلامية أحوج إلى نشر التراث منها إلى كتابة الرسائل فى بحوث جزئية.
٦ - حسن الأسلوب، وكثرة الجمع مع صغر حجم الكتاب، وحسن خطه، ووضوحه.
* * *
1 / 8
مقدمة التحقيق
وهى مرتبة على أربعة فصول:
الفصل الأول: وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية فى عصر الإمام الزركشى، ومدى تأثره بالحالة السياسية.
المبحث الثانى: الحالة الاجتماعية فى عصره، ومدى تأثره بها.
المبحث الثالث: الحالة العلمية فى عصره، ومدى تأثره بها.
الفصل الثانى: ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: اسمه، ولقبه، وكنيته، وولادته، ونشأته.
المبحث الثانى: مكانته، وأخلاقه.
الفصل الثالث: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طلبه للعلم، ورحلته لطلبه، وشيوخه، وتلاميذه.
المبحث الثانى: مؤلفاته.
المبحث الثالث: وفاته، وأقوال الأئمة والمؤرخين فيه.
الفصل الرابع: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالكتاب، ونسبته إلى المؤلف، وموضوعاته.
المبحث الثانى: مصادر المؤلف فى هذا الكتاب.
المبحث الثالث: وصف مخطوطة الكتاب ومنهجى فى التحقيق.
* * *
1 / 9
الفصل الأول فى أحوال الزركشى
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث
المبحث الأول: الحالة السياسية فى عصر الزركشى.
المبحث الثانى: الحالة الاجتماعية فى عصره.
المبحث الثالث: الحالة العلمية فى عصره.
* * *
1 / 11
تمهيد
تعتبر تراجم الرجال بمثابة المدارس للأجيال، ولذا كانت محل عناية العلماء والأدباء والكاتبين لاسيما كبار العلماء والزعماء وكل من قدم للأمة خدمات دينية أو دنيوية، ولذا يتحتم على من يريد الكتابة عن أى شخصية من هؤلاء أن يدرس الظروف المحيطة به، والوسط الذى عاش فيه منذ نعومة أظفاره حتى اشتد عوده ونضج فكره ليقف على الأسباب المؤثرة فى نبوغه والتى جعلته أحد العظماء؛ لأن تأثير البيئة فى الإنسان من المحسوسات الضرورية مثل تأثير الأبوين على الابن، والمدرسة والزملاء، والمعارف التى يتلقفها، وتأثير المعلم عليه، والكتب التى يطالعها، بالإضافة إلى الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تحدث عند الإنسان رد فعل سلبى أو إيجابى من حيث يدرى أو لا يدرى، وكل ذلك عوامل واقعية لها أثرها فى تكوين الشخصية، وتجعلنا نتناولها من قريب وتعيننا على فهم منهجها وطرقها فى الحياة.
وكل مجتمع يحمل عناصر خير وعناصر شر، وكل عنصر من هذين العنصرين يدعو الإنسان لاتباعه، والتكلم باسمه، فترى الناس على مشارب مختلفة فمنهم من يكون عنصر خير يدافع ويجاهد فى سبيله، ومنهم من يكون عنصر شر ينهمك فى الفساد والفجور، وكل منهم ميسر لما خلق له، وحينما ندرس حياة الإمام الزركشى مثلًا أو أى عظيم من العظماء المسلمين نجده متأثرًا بمجتمعه تأثرًا إيجابيًا أخذ خيره وعمل على نشره، ونهى عن الفساد، وعمل على كسره.
* * *
1 / 12
المبحث الأول الحالة السياسية فى عصر الإمام الزركشى
لقد عاش الزركشى من سنة ٧٤٥ هـ إلى سنة ٧٩٤ هـ، وعاصر فترتين من حكم المماليك.
الفترة الأولى: المماليك البحرية.
الفترة الثانية: المماليك الجراكسة أو الشراكسة (١).
أما فترة المماليك البحرية والتى تبدأ من سنة ٦٤٨ هـ حتى سنة ٧٨٤ هـ فقد قامت دولتهم بعد انتهاء دولة بنى أيوب بقتل آخر ملوكها نجم الدين أيوب الملك الصالح سنة ٦٤٨ هـ (٢).
وأول سلاطين المماليك البحرية عز الدين أيبك التركمانى الصالحى الذى تولى عام ٦٤٨ هـ، وقتل عام ٦٥٥ هـ، ثم جاء بعده ابنه المنصور نور الدين، ثم خلفه بعد سنتين الملك المظفر (يوسف بن قطز) ووقعت بينه وبين هلاكوا التترى موقعة عين جالوت سنة ٦٥٨ هـ التى انتصر فيها المسلمون وقتل فيها قائد المغول، واستخلص المسلمون منهم الشام بعد استيلائهم عليه، وتدميرهم المساجد، وإفسادهم فى الأرض بقتل النساء والأطفال والشيوخ، ثم وحد المظفر بين مصر والشام (٣) وجعل عليه أحد ملوك الترك، ثم قتل الملك المظفر على يد بيبرس بعد انتصاره على التتار سنة ٦٥٨ هـ، ثم تولى بيبرس الأيوبى على الديار المصرية
_________
(١) انظر الخطط التوفيقية لعلى مبارك، ط. الثانية ١/ ٧٨ - ٧٩، وعصر المماليك ونتاجه العلمى لمحمود رزق سليم، ط. الثانية ١/ ١٩ - ٢١، وموسوعة الدكتور شلبى ٥/ ١٨٦ ط. الثانية.
(٢) انظر النجوم الزاهرة لابن تغرى ٦/ ٣٦٤، والخطط التوفيقية ١/ ٧٧.
(٣) انظر البداية والنهاية ١٣/ ٨٦، ٢٢٠.
1 / 13
والشام والحجاز سنة ٦٥٨ هـ، ثم توالى الملوك بعده، وصار بعضهم يقتل بعضًا، وقامت الحروب بين المسلمين، واستمر وضعهم فى حالة يرثى لها إلى أن تولى الملك الناصر بن قلاوون حيث حكم وعُزل عدة مرات، كان آخرها عزله عام ٧٤١ هـ.
والذى يهمنا من أحداث هذه الفترة لدراسة حياة الإمام الزركشى ما كان فى مطلع القرن الثامن الهجرى من إرادة التتار غزو بلاد الشام ومصر بعد أن استولى الملك الناصر محمد بن قلاوون على الحكم بقليل فاستعد لقتال التتار، وزحف بجيوشه إلى الشام، ووقعت بينه وبين التتار معركة كانت الدائرة فيها على الملك الناصر وجيشه، فبالغ التتار فى التخريب والسلب والنهب والقتل إلا أن الناصر أخذ يعد العدة لملاقات أعدائه، وأعاد الكرة، فزحف إليهم ثانية عام ٧٠٢ هـ، ووقعت بينهم موقعة (مرج راهط) وانتصر فيها المسلمون انتصارًا حاسمًا، وقُضى على التتار قضاء مبرمًا، وخضعت بلاد الشام ثانية لسلطان مصر، ثم عاد الناصر إلى مصر، وبقى فى منصبه حتى ساءت العلاقة بينه وبين الظاهر بيبرس فرحل إلى الحج، ولكنه عندما وصل إلى الكرك خلع نفسه من السلطنة عام ٧٠٨ هـ بعد أن حكم فى هذه المدة قريبًا من تسع سنوات ونصف (١).
وتولى بعده السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وفى زمنه تفشت الأمراض، وعم الوباء، وارتفع سعر القمح وغيره من المواد وتشاءم الناس بطلعة المظفر بيبرس، ووقعت الوحشة بينه وبين عامة المصريين واضطربت الأوضاع، ووقعت المواجهة بينه وبين الناصر بن قلاوون حتى كانت نهاية المظفر على يد الناصر عام ٧٠٩ هـ (٢).
وهكذا ابتدأ القرن الثامن بالاضطرابات والفتن والحرص على السلطة والملك والحروب الطاحنة التى ذهب ضحيتها نفوس كثيرة، وأريقت دماء غزيرة، ولم
_________
(١) البداية والنهاية ١٣/ ٣٣٤، ١٤/ ٤٨، وعصر سلاطين المماليك ١/ ٣٢.
(٢) النجوم الزاهرة ٨/ ٢٦٨، ٢٧٥.
1 / 14
يكن ذلك خاصًا بمصر والشام، بل كان الحال فى المغرب والأندلس أسوء منه فى مصر والشام، ثم عاد الملك الناصر إلى ملك مصر مرة ثالثة واستمر من عام ٧٠٩ هـ إلى عام ٧٤١ هـ كما تقدم، وعندما عاد هذه المرة استبد بالأمر، وقام بالإصلاح، ورد المظالم، وأبطل المكوس حتى توفى عام ٧٤١ هـ (١). وكان عصره من أحسن عصور المماليك، واتسع أقصى الاتساع بعد أن نجح فى قهر التتار والصليبيين من الشام، واستطاع أن يثبت جدارته بحسن تصريف شؤون الدولة.
ولما توفى الناصر بن قلاوون دخلت دولة المماليك مرحلة جديدة فى تاريخها، وهى مرحلة عصر أبناء الناصر وأحفاده، واستمرت إلى نهاية المماليك البحرية وقيام دولة الشراكسة، واستمر حكم أولاد الناصر إلى عام ٧٦٢ هـ، وانتقل الحكم إلى أحفاده.
وأهم ما سجل التاريخ فى هذا العصر هو زيادة نفوذ الأمراء وتعاقب عدد كبير من أبناء الناصر وأحفاده من الأحداث فى منصب السلطنة، مما جعل الأمراء يتلاعبون بعقولهم، وعاش أهل مصر والشام فى أوضاع وتيارات داخلية متضاربة ومؤامرات متلاحقة بين الأفراد (٢).
بالإضافة إلى شدة الصراع بين السلاطين والذى أودى بالبلاد إلى حالة من الفوضى لا مثيل لها، وكثر الانحلال الخلقى حتى تحرك الصليبيون بحملة إلى الأسكندرية خربتها، وأغاروا على طرابلس بالشام، وقد فشلت محاولاتهم بفضل اللَّه، وهذا مما يدل على عدم هيبة دولة المماليك فى هذا العصر وضعفها (٣).
_________
(١) خطط المقريزى ٣/ ٩٦، والنجوم الزاهرة ٩/ ٣، ٤٩، ١٦٤.
(٢) العصر المماليكى للدكتور سعيد عاشور ص ١٣٢.
(٣) العصر المماليكى ص ١٣٩، وخطط المقريزى ٣/ ٩٧.
1 / 15
دولة المماليك الجراكسة (١)
من عام ٧٨٤ - ٩٨٤ هـ
قامت دولة المماليك الجراكسة على أنقاض دولة المماليك البحرية وأول سلاطينها السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق، تسلطن عام ٧٨٤ هـ، فبدأ بقتل رجال الدولة حتى أفناهم، واستكثر من استجلاب الجراكسة، فثار عليه الأمير يلبغا الناصرى عام ٧٩١ هـ، وأعيد الملك حاجى الذى كان آخر المماليك البحرية، وبعث برقوق إلى السجن، وبعد ذلك جهز البرقوق جيشًا فى الكرك وحارب به حتى استولى به وعاد إلى مصر، واستبد بالسلطة عام ٧٩٢ هـ، وبقى بها حتى مات عام ٨٠١ هـ، وفى هذه الفترة هلك خلق كثر بالطاعون والسيف من جراء الحروب المدمرة التى فتت فى عضد المسلمين، وكان ذلك من ميزات القرن الثامن الهجرى، هذا بالنسبة إلى مصر.
أما بلاد الشام التى رحل إليها الإمام الزركشى ودرس فيها فلم تكن أحسن حالًا فى هذا العهد من غيرها، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم محرومين من المشاركة فى الحكم، وفى أى أمر من أمور بلادهم (٢).
وهكدا ظل سلطان المماليك هو القوة الكبرى المسيطرة على مصر والشام وإن كان ما ذكرناه فى هذا العصر يعد من مساوئ الحكم المماليكى إلا أننا لا يمكننا أن ننكر أن المماليك كان لهم فضل كبير فى رد كيد التتار فى نحورهم وإراحة المسلمين من شرورهم وكذلك فى طرد الصليبيين وإبعادهم - فهم بذلك يكونون قد أزالوا خطرًا عظيمًا كان محدقًا بأهل الشام (٣).
_________
(١) الخطط للمقريزى ٣/ ٩٨.
(٢) العصر المماليكى ص ٢١٣.
(٣) العصر المماليكى ص ٢٠٥، خطط المقريزى ٣/ ٩٦.
1 / 16
تأثر الإمام الزركشى بالحالة السياسية
مما لا شك فيه أن استقرار الأوضاع والأمن من أكبر النعم على البشرية، وأى عالم يعيش فى مجتمع مضطرب تتنازعه الأهواء والفتن يتأثر بمجتمعه ويحزن له، وقد يثبط ذلك من عزمه ويقلل من حزمه، فيؤثر على تفكيره تأثيرًا مباشرًا، وهذا التأثر كما يكون سلبيًا بقلة العطاء والفت فى العضد يكون إيجابيًا كذلك من ناحية أخرى؛ لأن الغيورين على الدين وخاصة العلماء يشمرون عن ساعد الجد ليخدموا المجتمع الذى يعيشون فيه، فيزداد نشاطهم فيكتبون وينصحون ويرشدون، ونرى أن الزركشى تأثر هذا التأثر الإيجابى فنشط للكتابة والتصانيف ونفع الأمة، ومما ساعده على ذلك زهده وابتعاده عن المناصب فلم يعرف عنه أنه تقلد القضاء ولا استوزر، بل كان طريقه الوحيد التعلم والتعليم والتصنيف، ولم يشغله شاغل، ولم يمنعه مانع من طلب العلم رغم الاضطراب السياسى والحروب المدمرة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين.
* * *
1 / 17
المبحث الثانى الحالة الاجتماعية فى عصره
كانت الأحوال الاجتماعية فى عصر المماليك مضطربة، ومُرة، فالحروب المدمرة والمجاعات من جهة، والأمراض الفتاكة والطبقية التى تسود المجتمع من جهة أخرى، كل هذا يجعل الإنسان فى ضيق من العيش، وقلة هناء، وقلق دائم، وكان المجتمع إذ ذاك يتألف من طبقات:
الطبقة الأولى: وهى طبقة السلاطين: وكانت هذه الطبقة متميزة عن غيرها منفردة بالحكم وتنظيم شئون الحروب، وكانت ترى أن بقية الناس أقل منها شأنا فينبغى ألا يشاركوا فى تنظيم الحياة الحربية، وينبغى ألا يكون لهم نصيب فى الحكم إلا فى بعض شئونه التى ليس لها كبير فائدة (١).
وكان السلاطين بيدهم مقاليد الأمور وإليهم يرجع الناس جميعًا، وكان بعض السلاطين يستبد بالأمور كالسلطان محمد بن قلاوون فى فترته الثالثة المتقدمة بعد أن ذاق المرارة من الأمراء فى فترته الأولى والثانية من سلطنته، وكان أكثر السلاطين يتأثر بالأمراء فى هذا العصر مما كان له السبب فى إساءة كثير من الأمور (٢).
الطبقة الثانية: المماليك: وقد حرص السلاطين عليهم حرصًا بالغ الأهمية، وكانوا طبقة منفصلة، حيث إنهم حرس السلطان وخاصته، فربوهم تربية سليمة، إما عسكرية، أو دينية، أو ثقافية، ويأتونهم بالعلماء فى مساكنهم ليعلموهم (٣).
وكان السلاطين ينظرون إليهم نظرة أبوة وحنان، وكان عامة الناس يرى من هؤلاء المماليك سوء المعاشرة والهوان ويكلفونهم المغارم (٣).
_________
(١) عصر المماليك ص ٣٢٠.
(٢) خطط المقريزى ٣/ ٩٦.
(٣) العصر المماليكى ص ٢٣١.
1 / 18
الطبقة الثالثة: طبقة العلماء والقضاة: وتشمل أرباب الوظائف الديوانية والفقهاء والعلماء والأدباء والكتاب، ولهم مميزات معينة، إلا أنهم يتعرضون بين الحين والآخر أو بعضهم للمهانة والاحتقار، فالغرض من التعامل مع هؤلاء هو الدفاع عن المماليك وإبعاد سخط العامة عليهم لما فى قلوب المجتمع من تعظيم أهل العلم (١).
والعلماء فى هذا العصر كغيره من العصور كانوا على قسمين، فمنهم من كان مجاهدًا فى سبيل اللَّه، لا تأخذه لومة لائم فى الحق، فهؤلاء يجددون الدين ويقيمونه، وكان من هؤلاء العظماء القاضى شمس الدين الحريرى المتوفى عام ٧٢٨ هـ، حُكى عن ابن قلاوون أنه قال: "إنى لا أخاف أحدًا إلا شمس الدين الحريرى".
ومنهم من كان يتملق للسلاطين ويتقرب منهم ابتغاء مرضاتهم والنفع الدنيوى على حساب دينهم والعياذ باللَّه من حال هؤلاء.
الطبقة الرابعة: التجار: وكانوا مقربين أحيانًا إلى السلاطين لأنهم يمدونهم بالمال فى أوقات الحرج والشدة، وهم يجمعون أموالًا كثيرة إلا أنهم تحت سطوة السلاطين. ورحمتهم، فأحيانًا يصادرون أموالهم، وأحيانًا يثقلونهم بالرسوم والضرائب الباهظة.
الطبقة الخامسة: العمال والصناع والسوقة والسقائين والمُكَارين والمعدمين: وقد عاش أفراد هذه الطبقة فى ضيق وعسر بالنسبة إلى المماليك وغيرهم من الطبقات، وقد يدفعهم هذا الذى عاشوه من الضيق إلى السلب والنهب والتسول والخداع والغش فى أوقات الاضطرابات.
الطبقة السادسة: الفلاحون: وهم السواد الأعظم من السكان، وكان نصيبهم فى عصر المماليك الإهمال والاحتقار مع إثقالهم بالمغارم وتسلط الأعراب عليهم ونهب محاصيلهم ومواشيهم.
_________
(١) عصر المماليك ص ٣٢٣.
1 / 19
ورغم هذا كانت الأمراض والأوبئة والفيضانات تودى بحياة الكثيرين وتعطل أجسام آخرين عن العمل.
فذكر فى حسن المحاضرة: أن فى سنة ٧٠٢ هـ حصل بالديار المصرية مرض كثير قل أن سلمت منه دار. . . . ولكن كان المرض سليمًا، والموت قليلًا، وفي سنة ٧٢١ هـ كان بالقاهرة حريق كبير دام أيامًا فى أماكن وأحرق جامع ابن طولون وما حوله بأسره، وفى سنة ٧٢٤ هـ رسم السلطان بإبطال الملاهى مما يدل على أن الفساد انتشر وضرب أطنابه، وفى سنة ٧٤٤ هـ شدد والى القاهرة على إراقة الخمور وعاقب عليها، وفى سنة ٧٦١ هـ وقع الوباء بالديار المصرية، وفى سنة ٧٦٧ هـ أخذ الفرنج مدينة الأسكندرية، وقتلوا وأسروا، فخرج السلطان لقتالهم ففروا، وفى سنة ٧٧٦ هـ وقع الفناء بالديار المصرية، وأشتد الغلاء، وفى سنة ٧٨٣ هـ ابتأد الطاعون، وفى سنة ٧٨٤ هـ وقع الغلاء بمصر (١).
* * *
_________
(١) حسن المحاضرة ٢/ ٢٦٨ - ٣٠٦.
1 / 20
تأثر الإمام الزركشى بالحالة الاجتماعية
إن الإنسان الذى يسعى لأن يكون كريمًا فى مجتمعه وله مكانة مرموقة فيه لابد وأن يتأثر بتأثر هذا المجتمع، ويفكر فى المشاكل التى تحيط به ويحدد موقفه منها، وقد تقدم أن الناحية الاجتماعية فى القرن الثامن الهجرى تنازعتها مؤثرات كثيرة من جهل ومرض وفقر وحروب مدمرة، كل ذلك يؤثر فى أى شخص يعايشه بغض النظر عن كونه عالمًا أو جاهلًا، لذا فإن الناحية الاجتماعية قد أثرت فى نشأة الزركشى وتكوينه، فتعلم أول أمره صنعة الزركشى التى هى صنعة آبائه ومن يعرفهم، ثم لما تعرف على العلماء تراه ترك الدنيا واتجه إلى العلم ينهل منه حتى أصبح من العلماء البارزين فى القرن الثامن، ومن حبه للعلم ترك كل عمل غيره حتى كان ينفق عليه بعض أقاربه ويكفيه مؤنته، وقطع نفسه فى سبيله، ولعل هذا من الأسباب التى جعلته قليل التأثر بالحياة الاجتماعية العامة، لأن عدم المسئولية وعدم الحقوق على الإنسان يجعله فى راحة أكثر وتفرغ أكثر فائدة - فاللَّه يرحمنا ووالدينا ويرحمه.
* * *
1 / 21