Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
ومرض بعد عودته إلى دمشق بحمى صفراوية، وانتابه أرق شديد في الليل ولزم الفراش نحو أحد عشر يوما، ومات في الثاني عشر من مرضه، وكان ذلك في السابع والعشرين من صفر لعام تسع وثمانين وخمسمائة، ويوافق ذلك 4 مارس سنة 1193 ميلادية.
وكان حزن الناس لموته لا يوصف؛ فقد كان العامة يرون فيه السلطان العادل، والجند يعرفونه القائد المنصور، والقادة يعرفون فيه الرجل العظيم، والعلماء يعرفون فيه التقوى والوداعة والإيمان، والأدباء يذكرون ما نالهم من بره وتقديره لمواهبهم. فكان يوم موته مأتما عاما لا مراءاة فيه ولا مجاملة، بل كانت موجة الحزن تجتاح البلاد قوية ثائرة. قال أحد كبار رجاله - وهو القاضي بهاء الدين بن شداد: «وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم، فظننت هذا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدى بالنفس.» وقد مات صلاح الدين عن نحو سبع وخمسين سنة بعد أن ملك مصر نحو أربع وعشرين سنة وملك الشام نحو تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا وبنتا واحدة تزوجت فيما بعد بابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، وكان أكبر أولاده الذكور: الملك الأفضل نور الدين علي والذي يليه العزيز عثمان والثالث الظاهر. (30) كلمة عن الرجل
ما هي العظمة؟ وما هو الرجل العظيم؟ هذان سؤالان يصعب أن يجيب الإنسان عليهما، ولكن لا بد من أن يلتمس الإنسان ذلك السر إذا أراد أن يدرك شيئا عن حقيقة صلاح الدين.
لقد كان في العالم عظماء كثيرون من رجال السيف ومن رجال الفكر، وقد ترك هؤلاء آثارا في وقتهم، وظلت آثارهم إلى ما بعد موتهم.
ولكن المرء يدرك أنهم كانوا كبارا في الرجال، فإذا ما حاول أن يعرف سر عظمتهم خانه البحث أو ضلله المنطق، حتى لقد قال الكثيرون: إن العظمة سر خفي في المرء يرى أثره ولا يعرف كنهه.
ويكتفي هؤلاء بأن يفسروها بألفاظ غامضة إذ لا يقدرون على تبسيطها، ولكنا نخاطر ونحاول بالاستقراء أن نقول في هذا الشأن كلمة نصوغها بأبسط لغة عالمين بوعورة ما نتجشم.
الجسم في نفسه - وهو تلك المجموعة من اللحم والعظم وسائر المكونات - ليس إلا آلة تطيع وأداة تنفذ ما يريده نظام أعلى وهو الروح وما يلحق به من مجموعة عصبية، ولعلنا إذا أردنا معرفة سر عظمة الفرد لا نقدر أن نجده في الغلاف الخارجي، بل لا بد أن يكون في تلك المجموعة العصبية المسيطرة. (أ)
كان كل عظماء الرجال ذوي أعصاب متينة؛ تحس فتؤدي إحساسها على أتم وجه وأدقه، ثم تحرك الجسم ما شاءت من حركات لا يتطرق إليها الخلل ولا يخرج عن سلطانها عضو من الأعضاء.
يتلقى العظماء من الصدمات أعظمها ويحسون بعظم الصدمة، بل إن إحساسهم بها يكون - في الغالب - أكثر من إحساس عامة الناس، ولكنهم لا يذهلون للصدمة ولو اشتدت، ومثل هذا ما نسمعه من نابليون إذ قال عن نفسه: «كأن الأقدار كانت عالمة بما خبأته لي من صدمات فجعلت لي أعصابا من حديد.»
وقد كان لصلاح الدين قسط كبير من هذه الصفة؛ فكان لا يذهل عند صدمة بل يحس بها ويقف ويحكم ويريد وينفذ في ثبات ودقة؛ ففي حصار عكا كان يرى العدو يزيد عدده يوما بعد يوم وهو يتخذ لكل طارئ عدته أو يحاول ذلك، ولم يجزع ولم تخر عزيمته. وفي موقعة أرسوف وقف وحده في وسط جمع قليل وقد انهزم جيشه، وبقي على ثباته حتى بعث شيئا مما في نفسه من قوة الجنان إلى رجاله فثبتوا ، ومنع بذلك كارثة كادت تكون قاضية. وكم حدث أن بلغه نعي أبنائه أو أهله من أعز الناس عليه فيملك نفسه والحزن يحرق قلبه، فإذا كان في وليمة لا يفسدها بل يستمر على إحيائها إلى أن تنتهي، ثم يترك بعد ذلك العنان لنفسه الحساسة فيفيض جواها وحزنها بعد أن كبحها ما شاء. ولو شئنا أن نضاعف الأمثلة الدالة على ذلك لوجدنا في كل يوم من حياته المليئة مثلا بل أمثالا. (ب)
Unknown page