Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
(1) دعوة الإسلام ونضاله مع الأمم
قام دين الإسلام في صحراء العرب، ثم نما وزاد حتى شمل كل الجزيرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعل ينشر جناحيه كي يظل بهما ما يليه من أمم الأرض من قبل المشرق والمغرب؛ فإن دخلوا تحته راضين كانوا إخوانا، وإن هم أبوا ذلك جاهدهم حتى يدخلهم في حوزة العقيدة والإيمان أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكان الإسلام يرضى بتلك الخطة الأخيرة عالما أنها الخطة العملية لإدخال الناس في حظيرته على طول الزمن إذا هم قاوموا الصدمة الأولى، علما منه بأن دفع الجزية والخضوع سيدفعان بعد حين إلى الدخول في الدين عندما تهدأ ثورة الإباء.
وقد وجد الإسلام من العرب عدة واستعدادا، فجعل سيلهم يتدفق على ما جاوره من البلاد؛ فاجتاح فارس وهبط على ما يليه من بلاد الروم حتى أقام دولة فتية لم يشهد مثلها التاريخ إلا قليلا، فبلغت في نحو تسعين سنة اتساعا لم تبلغه دولة الروم في قرون طويلة، وكان من أسباب انتصار هذه الدولة الفتية تلك الحماسة الدينية العجيبة التي لم يذكر مثلها التاريخ لشعب آخر من الشعوب، حماسة قائمة على عقيدة كالصخر، لا يدخل إليها شك ولا يضعف من سورتها ظلم، بل كانت عقيدة حرة ثابتة، فشهد العالم نوعا جديدا من أنواع الدولة يقوم على الجهاد في سبيل العقيدة الدينية، فلا تقوى دولة من دول الأرض على الوقوف في وجهها، وكان ذلك أول عهد جديد طلع على العالم المعروف.
وسارت دولة الإسلام بعد ذلك قدما في سبيلها، فهدأ تيار الفتح بعد حين، وجعلت أمورها تستقر، وأخذت تلتمس المدنية من وجوهها، فنقلت ما نقلت عن دول سبقتها مثل فارس ومصر، وأنشأت لنفسها فوق ذلك مدنية طريفة صبغتها بصبغتها، حتى إذا كانت أواخر القرن السابع بعد الميلاد (النصف الأخير من القرن الأول للهجرة) صارت دولة الإسلام (دولة بني أمية) هي دولة العالم الكبرى، وكان إلى جوارها في أوروبا دولة الروم الشرقية من قبل آسيا الصغرى.
وكانت أوروبا في هذا الوقت قد طرأ عليها تغير كبير من حوادث ذات بال وقعت بها منذ أواخر القرن الخامس للميلاد - قبل الهجرة بنحو قرن ونصف؛ وذلك أن دولة الروم العظيمة الغربية بلغت شيخوختها وضعفت وجعلت أمم من المتوحشين تغير عليها من سهوب الشرق المجاورة لبحر قزوين وما إليه، فما زالت تلك القبائل الهمجية تصدعها حتى تصدعت وتفككت وسقطت، وآلت رومة العظيمة عاصمة العالم إلى يد الفاتحين من قبائل القوط، ومن ذلك الوقت ضاع أمر دولة الروم الغربية، وتقسمت أرضها بين المغيرين، فأخذت قبائل الفرنج (الفرنك) بلاد غالة (فرنسا الحالية)، وهبط «الواندال» ثم قبائل القوط الغربية في إسبانيا حيث ظل حكمهم أكثر من قرنين، إلى أن أتى العرب فقاموا على أنقاض دولتهم هناك، ثم استقرت دولة القوط الشرقية في إيطاليا، وبذلك صارت مدنية الدولة الرومانية إلى تلك الأيدي الخشنة، فما لبثت أن ذهب رواؤها وأصبحت أثرا بعد عين.
على أن العالم الغربي قد كسب شيئا وإن فقد مدنية الرومان؛ وذلك أن الشعب الروماني القديم كان قد بلغ مرتبة الشيخوخة والضعف وكان لا بد له من الفناء في نضال البقاء، فلما غلبت عليه تلك القبائل المتوحشة واختلطت به دخلت في دين المسيح وأدخلت على شيخوخة الشعب الروماني فتوتها وخشونتها وبداوتها، فدخل دم الشباب من هذه القبائل إلى الشعب القديم، وعادت إليه قوة حيوية كبرى، وبقيت المدنية القديمة محلا للتقديس ولو أنها كانت غير مفهومة ولا مدركة، وكان الدين المسيحي الذي اشترك فيه الشعبان: القديم والحديث علاقة متينة زالت بواسطتها الفوارق تدريجا، حتى إذا ما أتى القرن الثامن بعد الميلاد (القرن الثاني للهجرة) كانت عوامل الاختلاط قد أتت بنتائجها وأصبح الشعب القديم غير ظاهر وحده، بل صار الناس خليطا من الشعب القديم والشعوب الهمجية، وبدأت كل جهة تمتاز عن الأخرى لهجة وعادات وطبائع بحسب السنة الطبيعية لاختلاف البيئات ولهجات القبائل المختلفة، وبذلك وضع أساس أمم أوروبا الجديدة.
عظمت بعد ذلك دولة العرب في مدة العباسيين حتى صارت أعظم دولة في العالم مجدا ومدنية وقوة، ولكن انفصلت عنها أجزاء قامت منها دول فتية أخرى؛ أكبرها دولة الأمويين بالأندلس يحكمها أبناء عبد الرحمن الأموي، الذي هرب من العباسيين إلى الغرب وعبر البحر وكون دولة مستقلة في شبه جزيرة الأندلس ينافس بها أعداء أسرته العباسيين، وعلى هذا كان للعالم المسيحي في القرن الثامن للميلاد جبهتان يتقابل فيهما بدول الإسلام:
الجبهة الأولى:
الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها في القسطنطينية، وهي تتاخم دولة العباسيين عند آسيا الصغرى.
والجبهة الأخرى:
Unknown page