Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
فإذا كان هذا سلوكه مع من خالف وحاول العصيان أيكون غدارا قاتلا مع من نوى أن يستقل ولم يتعد عمله النية؟! (17) الجهاد الأعظم (عرض عام)
دانت جميع البلاد لصلاح الدين من آخر حدود النوبة جنوبا وبرقة غربا إلى بلاد الأرمن شمالا وبلاد الجزيرة والموصل شرقا. هذا عدا تفضيل الخليفة له واعترافه بسلطانه، وذلك ليس بالأمر القليل. وقد كان في ذلك مقنع لنفس ذلك الرجل لو كان يريد ملكا ونعمة، ولكنه كان ينظر إلى تلك الدولة نظرة الحارس إلى ما في حراسته لا يرزأ منها إلا مقدار أجره، ويرى أن الملك إنما هو واجب عليه يؤديه بما تقتضي نفسه ويحتم شعوره بالأمانة؛ ولهذا كان أقل الناس تنعما بما في يده من متاع. ولو كان صلاح الدين في غير ذلك العصر الذي وجد فيه لأنشأ مدنية عظيمة في مصر والشام وحواشيهما ، ولتنكب ما يعوق التقدم السلمي بما استطاع؛ فقد كان لا يحب سفك الدماء، وكان يكره أن يرى من يحب سفك الدماء. ومما يذكر في ذلك أن بعض صغار أولاده طلب منه مرة بعض الأسرى ليقتله؛ فلم يرض وزجره، فقيل له في ذلك فقال إنه يخشى على الولد أن يضرى على سفك الدماء وهو لا يميز بعد بين المقام الذي يستلزم القتل وغيره.
وكانت الحرب عنده شرا لا بد منه، وقد اضطر إلى أن يقضي أكثر عمره في حروب ودماء؛ وذلك لأن روح العصر كانت تقضي عليه أن يكون محاربا طول عمره؛ فإن الصليبيين أتوا من وراء البحار - تدفعهم حماسة شبيهة بحماسة الطفولة - إلى فتح بيت المقدس والقضاء على الإسلام، وقد نجحت صدمتهم الأولى في تكوين دولة مسيحية ولكنها لم تكن دولة بالمعنى الصحيح؛ إذ كان أساسها فوق السطح غير راس على شعب في البلاد، بل عماده جماعات تأتي بين حين وحين من وراء البحار من متحمسي الدين. ولكن الحماسة تخبو كما تخبو النار بعد شدتها، ولكل عصر مشاغل وآراء، والمشاغل والآراء تتغير؛ ولهذا بدأت الموجة تضمحل على طول القرن الثاني عشر، وفي أثناء ذلك كان المسلمون يرون أنفسهم أهل بلاد أغار عليهم قوم من الأغراب يريدون سلب بيت يقدسونه هم كما يقدسه أولئك الأغراب، وثارت عزة المسلمين من تذكر هزيمتهم أمام قوم كانوا يرونهم أقل مدنية وأدنى مكانة، وهم الذين تعودوا - في تاريخهم الماضي - أن ينتصروا على سواهم من مسيحيين وغير مسيحيين في أكثر مواقفهم. وكان عصر صلاح الدين لا يزال على هذه العقيدة التي دفعت زنكي ونور الدين إلى الجهاد، فكان محتوما على مثله أن يقود الدولة الإسلامية التي أقامها إلى حيث تحرز انتصارا جديدا.
وكان الوقت ملائما لانتصار صلاح الدين في جهاده أكثر مما كان في مدة من سبقه؛ فإن زنكي كان أميرا صغيرا يحاول صدم قوة المسيحيين في عنفوانها، وكان نور الدين يحارب المسيحيين وهم لا يزالون محتفظين بكثير من قوتهم، وزادوا عليها في النصف الأول من القرن الثاني عشر أن كونوا فرقتي الفرسان الرهبان وهما الداوية (فرقة المعبد أو التمبل) والاسبتارية (فرقة الهسبتاليين أو القديس يوحنا). وكان فرسان هاتين الفرقتين من أكثر المحاربين شجاعة في الحرب وحماسة للدين؛ ولهذا كانوا شديدي الوطأة في حروب المسلمين.
فلما أتى عصر صلاح الدين في أواخر القرن الثاني عشر كان المسيحيون قد أنهكهم طول الحرب مع المسلمين نحو نصف قرن أو يزيد، وكان من يأتي من وراء البحار - لإمداد الصليبيين بالشام - لا يعوض من يفقد منهم، أو على الأقل لم يكن الجديد مثل القديم نجدة ودربة. وزيادة على ذلك قد دب الفساد في داخل الحكم وأصبح ملك بيت المقدس مثل أي ملك آخر إذا تقادم العهد على من بنوه؛ تتنازعه الدسائس والأغراض، وكانت بقية بيت الملك في أيام صلاح الدين الأخيرة محصورة في «بلدوين الرابع» أولا و«بلدوين الخامس» ثانيا، وكان الأول مصابا بداء الجذام ضعيفا لا يستطيع شيئا، وكان الثاني في يد أم لم يشهد التاريخ كثيرا مثلها غلظة ولا دناءة. وتشاحن الأمراء على الوصاية، وكان أجدر هؤلاء الأمراء وأشجعهم «ريمون» صاحب طرابلس، إلا أنه بعد وصايته مدة عزل وتولى بعده رجل أحبته الملكة أم بلدوين الخامس، واسمه عند العرب «كي» وهو «جي دي لوسنيان»، ولم يلبث الطفل بلدوين أن مات ويقال: إن أمه قتلته.
ومن ذلك الوقت بدأ التنافس يتخذ شكلا جديدا؛ فإن «كي» كان من أجمل الناس ظاهرا وأدنئهم حقيقة، حتى إن أخاه قال مرة: «إذا كان هذا ملكا فما أجدرني أن أكون إلها!» وكان من الطبيعي أن كبار الأمراء بالشام يحقدون عليه، وأكبرهم «ريمون» الطرابلسي. والحقد يدفع إلى شيء كثير، حتى إلى الخيانة؛ ولهذا يلوح لنا أن ريمون بدأ يراسل المسلمين وكانت له يد في انهزام المسيحيين.
إلى جانب ريمون كان أرناط «رجنالد أو أرنولد دي شاتيون» صاحب الكرك، وهو رجل من أشجع فرسان المسيحيين ولكنه كان غرا متهورا غدارا؛ فإذا كانت خيانة ريمون ساعدت المسلمين بتوطئة سبيل النصر لهم فإن غدر أرناط وتهوره قد ساعدا صلاح الدين؛ إذ جعلا الحق إلى جانبه، وقديما كان الحق قوة للمعتدى عليه ولو بعد حين. (18) اتقاد النيران (موقعة حطين)
إذا كان صلاح الدين قد فرغ من مشاغل دولته ودانت له الإمارات الإسلامية جميعا، فجمع كل تلك القوة الهائلة بين يديه واستعد ليقذف بها الصليبيين فيرميهم وراء البحر الذي أتوا منه؛ فإن الصليبيين في الناحية الأخرى كانوا على قلق كبير يريدون أن يقوضوا ذلك البناء المخيف الذي علا إلى جانبهم يهدد وجودهم بالشام، وكان جماعة من أمرائهم يدفعهم الخطر الداهم إلى الاستبسال والاستماتة في النضال، وكان من هؤلاء: البرنس أرناط صاحب الكرك.
وإلى جانب أرناط كان فرسان الداوية والاسبتارية يتحرقون شوقا إلى لقاء المسلمين لعلهم يستطيعون بهجماتهم العنيفة صدع دولة صلاح الدين، فكان بذلك المسلمون والمسيحيون على السواء متحفزين للوثوب بحماسة متشابهة، وكان ما بينهما جو من التحدي مملوء بالمادة الملتهبة تنتظر أول شرارة؛ ليندلع لهيبها فيلتهم كل شيء، ولنذكر أن هدنة سنة 1184م التي كان أجلها إلى سنة 1188م كانت لا تزال قائمة في سنة 1187م.
لم يكن أرناط حديث عهد بعداوة المسلمين؛ فقد كانت جنوده تهوي على الحاج والتاجر، وأساطيله تسير في البحر الأحمر تلتمس الفريسة الإسلامية، ولكنا رأينا أنه لم يجد في تصيده إلا ما لا يصاد من ذي شوكة حادة أو ناب قاطع، وكأن هدنة سنة 1184م طالت به فدفعه تهوره إلى خرقها، وكان صلاح الدين لا ينتظر إلا ذلك الغدر منه ليبدأ بجهاده الذي استعد له.
Unknown page