Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
ولكن كان حول نور الدين جماعة من أمثال الياروقي الذين كانوا يرون صلاح الدين قد سلبهم ملك مصر، ولا بد أن هؤلاء كانوا يحاولون ما استطاعوا أن يظهروا لنور الدين سوء نية منافسهم لعله يحقد عليه ويخلعه، فيكون ذلك انتقاما لهم منه، فجعلوا يفسرون حركات صلاح الدين بما شاءت لهم نفوسهم المغضبة.
ولا يبعد أبدا - بل نرى - أن تفسير حركات صلاح الدين بعدم رغبته في مقابلة نور الدين من وحي هؤلاء وإشاعاتهم.
أما قصة المجلس الذي جمعه صلاح الدين بعد رجوعه عن الشوبك فإنها تشبه القصص التي نسمعها في المؤلفات الخيالية، حتى إنها لتورد الألفاظ التي قالها أيوب لابنه في خلوة وهو ينصحه ألا يقول شيئا في العلن إلا الخضوع لنور الدين، ويؤكد له في نفس الوقت أنه لو أراد نور الدين قصبة من مصر لحاربه عليها، وأن نجم الدين الحريص ليكون ممن ينصح بشيء ويخالفه، ويعلم وهو محتاج إلى التعلم لو كان أسمع أحدا ما قاله لابنه إذ ذاك في خلوته؛ وإلا أفليس من المضحك أن يعرف مؤرخ ما قاله نجم الدين لابنه في خلوة ولا يعرف ذلك نور الدين نفسه؟!
على أن هناك ما يفيد أن سيرة ذلك المجلس وما وقع فيه لم تكن إلا خيالا؛ فإن ابن شداد - وهو القاضي بهاء الدين - مؤلف سيرة صلاح الدين وصاحبه في مسيره وحروبه لم يذكر شيئا عن ذلك المجلس، ولم يذكر والد صلاح الدين ولا نصيحته، ولكنه نقل إلينا وهو مصدق فيما يقول سمعته قال: سمعت صلاح الدين نفسه يقول: «كان بلغنا أن نور الدين يقصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشق عصاه ونلقى عسكره بمصاف نرده إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيء من ذلك.»
فالحقيقة هي إذن أن نور الدين تغير على صلاح الدين وأساء الظن به؛ لأنه حمل على أن يؤول حركاته وأعماله بغير ما قصده، وعزم على السير إليه وصلاح الدين صابر لا ينوي مقاومة ولا يظهر إلا الخضوع ولا يبطن إلا الإخلاص. (3)، (4) وأبلغ من كل ذلك ذكر فتح النوبة والقول بأن ذلك كان مقصودا به فتح أرض تكون ملجأ من نور الدين، والواقع أن تلك الحملة لم تكن إلا لتطهير جنوب مصر من بقايا الحرس السوداني الذي كان لا يزال منه بقية ثائرة بالصعيد حتى تكون مصر كلها مطمئنة له من البحر إلى أقصى حدودها الجنوبية. وأما فتح اليمن فمن الغريب أن يستأذن صلاح الدين نور الدين لو كان عنده نية المخالفة، ومن الغريب أن نور الدين يأذن له بإرسال الجيش إلى هناك لو كان حقيقة يعتقد أن ذلك الرجل يخون.
فالواقع الذي نراه هو أن سوء ظن نور الدين لم يبدأ منذ سنة 1171م، بل إنه قد بدأ يتجسم له من بعد موقعة الكرك، وبعد السماح بحملة اليمن سنة 1173م، وأن ذلك الظن لم يتجسم إلا من سعي أعداء صلاح الدين ومنافسيه، وأن صلاح الدين ظل إلى نهاية الأمر لا يتأثر بما يشاع عن تغير نور الدين عليه. وأما أبوه نجم الدين - رحمه الله - فلم يكن له من أمر ذلك المجلس المزعوم شيء، بل نعتقد أنه عندما مات بمصر - أثناء المدة التي كان فيها صلاح الدين عند الكرك أو عائدا منها سنة 1173م - كان لا يفكر تفكيرا جديا في أن هناك سوء ظن بين ابنه وبين سيده. (6) ثورة المصريين
لعل صلاح الدين لم يكن في حياته كلها في خطر أعظم مما كان فيه في سنة 1173م/599ه وسنة 1174م/570ه؛ فإن عوامل كثيرة اجتمعت على عداوته، ولما لم تجد فرصة تمكنها منه علنا في ميادين النضال عمدت إلى الدسائس والمؤامرات، فكان في مصر حزب موال للشيعة العلوية أصحاب الخلافة المنقرضة، كان في جيش صلاح الدين جماعة من الجند لم ينالوا ما يرضيهم فكرهوا حكمه، وكان بقية من الجند السودانيين الذين يكرهون صلاح الدين لا يزالون بمصر، وكان هناك الإسماعيلية الفدائيون الذين كانوا يميلون إلى الفتك بمن قضى على دولة علوية مذهبها الديني مثل مذهبهم، وكان صلاح الدين صاحب ذكاء متوقد وحذر لا تفوته فائتة، فأدرك أن بالجو أمورا تنذر بالخطر؛ ولهذا لم يأمن أن يبقى خارج مصر طويلا فرأيناه يعود من الكرك سنة 1173م قبل أن يتم فتحها، ولم ينتظر لكي يشترك في الحرب مع نور الدين كما مر، وقد حسب أعداؤه أن الفرصة سانحة لبعد جزء كبير من الجيش في حرب اليمن سنة 1173-1174م فأحكموا أمرهم ودبروا الوثوب به. ولا يسعنا إلا أن نبصر ما ارتكبه صلاح الدين من الخطأ بتسيير حملة في ذلك الوقت مع توقعه الخطر، ولا نجد مبررا لإنفاذ تلك الحملة إلى ذلك القطر البعيد إلا رغبته في أن يملك طرف البحر الأحمر من الجنوب كما ملك ثغر أيلة على رأسه من الشمال؛ ليمنع الخطر الذي كان في ذلك الوقت يهدد البلاد المقدسة من ناحية المسيحيين؛ إذ كانوا يفكرون في حشد أساطيل عظيمة في ذلك البحر لغرض الإغارة على الحجاز وقبر النبي. ولكن لحسن حظه علم بأمر المؤامرة قبل أن تنفذ خطتهم، وذلك بسعي زين العابدين علي بن نجا الواعظ، فقبض على رؤساء المتآمرين فصلبهم بعد أن حاكمهم وأقروا، وبذلك قضى على النار قبل أن تشب، ولكنه إذا كان قد قضى على رأس الحية فقد خلف ذنبها، وسيجد - فيما بعد - صعوبة في تحطيم ذلك الذنب كما سيأتي.
وكان أكبر من صلبهم من رؤساء المؤامرة عمارة اليمني الشاعر، وهو الذي حسن إلى شمس الدولة أخي صلاح الدين فتح اليمن، وكان يباهي بأنه هو الذي أفسح السبيل للمتآمرين بأن حمل شمس الدولة على الإقدام على حملة اليمن، وبذلك أبعد جزءا كبيرا من الجيش عن مصر، وكان لعمارة أشعار في الفاطميين منها:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن أقصرت في عذلي
Unknown page