Sajinat Tihran
سجينة طهران: قصة نجاة امرأة داخل أحد السجون الإيرانية
Genres
تحفل الرواية بقدر لا بأس به من المعلوماتية بسردها العديد من الأسرار التي ما كان لنا - كقراء - أن نعرفها إلا من خلال سجينة خبرت العذاب وراء قضبان معتقل الخميني، ومن داخل أحد عنابر النساء. كيف كان السجانون يضعون الكافور في الشاي كي ينقطع الطمث عند الفتيات، كيف كانت السجينات يكافحن من أجل الحصول على حفنة ماء يستحممن بها، كيف كن ينمن على جوانبهن، ويحرمن من الاستلقاء على ظهورهن لضيق المكان وازدحامه بالسجينات. تحكي لنا عن الجوع والبرد والقهر، وتحكي لنا عن كتابات السجينات على الحوائط واستغاثاتهن، وكيف وجدت على جدران إحدى الزنازين كلمات مكتوبة بطريقة «برايل» للعميان تقول: «هل يسمعني أحد؟» كتبتها سجينة قديمة اسمها شيرين هاشمي عام 1982. وكيف كن لا يجدن الكتب للقراءة، إلا كتب الدعوة الخمينية والولاء الخميني، إضافة إلى بعض الكتب في الدعوة الإسلامية. أما الحصول على ورقة وقلم فكان من المستحيلات الكبرى، ولم يكن من سبيل له إلا عن طريق «السرقة»، كما فعلت السجينة الصبية سارة لكي تكتب مذكراتها على جسدها بعد موت شقيقها سيرس، وكانت ترفض الاستحمام كيلا تمحى يومياتها الموجعة. وكذلك تلقي الضوء على انعكاس الحرب العراقية الإيرانية على الشارع الإيراني، وما خلفته الحرب على المواطنين من ويل. وأيضا نتعرف من قرب على بعض فتاوى الخميني التي كانت تكتب كشعارات تملأ الميادين؛ مثل فتوى «قتل الكافر»، والمقصود بالكافر هنا هو كل من لا يؤمن بالفكر الخميني. نتعرف أيضا على الفروق بين عهدين من خلال مقارنة بين نزلاء عنبر في سجن إيفين في عهد الشاه وعهد الخميني. في عهد شاه إيران كان عنبر 246 يضم حوالي خمسين سجينا، وفي عهد ثورة الخميني بات يضم ستمائة وخمسين سجينة. نتعرف أيضا على قمع التلاميذ في المدارس على يد مؤيدي الخميني من خلال مديرة المدرسة محمودي خانم، وماذا فعلت في بطلتنا وفي طالبة أخرى اسمها نسيم، اتهمتها المعلمة القاسية بأنها نمصت حاجبيها لأنهما متساويان أكثر من اللازم، وأكدت نسيم أنها لم تمس حاجبيها أبدا، لكن المديرة اتهمتها بالفجور فبكت. كانت نسيم جميلة، ودافعت عنها الكثيرات من الطالبات، وشهدن أن تلك هي طبيعتها، لكنها أبدا لم تتلق اعتذارا على ما حدث. نتعرف أيضا على طقوس السجينات في المناسبات المختلفة؛ مثل عيد ميلادها السابع عشر، وكيف صنعت لها السجينات كعكة من الخبز والتمر، وطرزن لها وسادة من قصاصات الأقمشة كهدية، وكيف ولدت شيدا طفلها في المعتقل، وكيف كانت السجينات يلاعبن الوليد كاوه ويدللنه، فغدا له أمهات كثر، لا واحدة.
نتعرف أيضا إلى مفارقة أن ينجو زوجها الإسلامي علي في عهد الشاه العلماني، ثم يقتل في عهد الخميني على يد متطرف إسلامي مثله! تطرح الكاتبة أيضا صورة إيران الإسلامية كما تراها، بعدما قبض الخميني على مقاليد الحكم؛ حيث انقسمت إيران إلى شرائح ثلاث بمجرد أن أحكم الإسلاميون قبضتهم: (1) الجهلاء يطيعون الخميني طاعة عمياء دون تفكير ليدخلوا الجنة. (2) المثقفون التزموا الصمت خوفا من الإعدام أو الاعتقال. (3) الانتهازيون كانوا يكرهون الخميني، لكنهم يؤيدونه طمعا في المناصب.
تحفل الرواية أيضا بقدر لا بأس به من «المعرفية»، حيث تفتح لنا كوة صغيرة ليتعرف القارئ من خلالها على مبادئ الزرادشتية، وبعض مزامير داود، ولمحات من العقيدة المسيحية، ونتعرف على ملامح جماعة مجاهدي خلق المتطرفة، في مقابل جماعة فدائيي خلق الشيوعية. ترسم لنا الكاتبة أيضا ملامح من الحياة الإيرانية قبل الثورة الخمينية وبعدها، لنتعرف كيف انقلب مجتمع منفتح إلى شرنقة منغلقة. تسلط الضوء أيضا على «أحادية» التفكير لدى المتطرف الديني حين يظن أنه امتلك اليقين كاملا، واحتكر الطهر الكامل، وكل من عاداه جاهل دنس. نلمس هذا حين صفع الجلاد حامد سجينته مارينا وقت قالت: «سوف يساعدني الله في تجاوز محنة السجن.» ثم صرخ فيها: «لا تتلفظي باسم الله، فأنت دنسة!» تصحح الرواية أيضا بعض المفاهيم المغلوطة؛ مثل تكرار الخطأ الكلاسيكي القائل إن الشيوعية تنادي بهجر المعتقدات! أو باعتبارها معتقدا دينيا وليس مذهبا اقتصاديا ... إلخ.
الخيال الدرامي
لا يخلو عمل إبداعي، شعرا كان أم مسرحية أم رواية، من خيوط الخيال، وإلا كان سردا تقريريا يخلو من الفن. وبعيدا عن اعتراف الكاتبة في بداية القص بأن الأسماء الواردة بالرواية، من سجناء وسجينات، ليست هي الأسماء الحقيقية، بل أسماء وهمية حفاظا على أرواح الشخوص الحقيقيين الذين ما زالوا أسرى إيران الخمينية، وبعضهم ما زال رهين المعتقل، إلا أن أسلوب الصوغ ورسم الأحداث يشي بأن ظلالا أخرى من الخيال تناوش الأحداث الحقيقية، ولو عبر الصور القلمية واللوحات الشعرية التي تصبغ السرد بروح الإبداع، حتى وإن طغى الواقع المر على الخيال المحلق. ننصت أيضا إلى صوت الخيال في ذاكرة «الطفلة» مارينا وهي تحكي لنا حكايا جدتها الروسية، وصندوق اللعب، ودفتر الذكريات القديمة الخاصة بذكريات الجدة الروسية مع جدها، وصخرة الصلاة الطيبة التي لا تذيع الأسرار، والملاك الطيب الذي ينقذ الأطفال من عقاب الأمهات القاسيات، وغيرها من اللقطات العذبة.
الأسلوبية والصور الشعرية والفلسفية
تمتلك الكاتبة قلما رخصا يسيرا، يرسم الكلمات على نحو بسيط عفوي مشوق خال من التقعر والمعاظلة اللغوية، وهذا يصب في خانة رشاقة الصوغ وسلاسته.
وتحفل الرواية بصور شعرية آسرة؛ كأن تقول: «كنت أحيانا أتخيل نفسي سحابة بيضاء صغيرة تنجرف وسط السماء الزرقاء، أو راقصة باليه أمام حشد كبير من الناس، أو سفينة تبحر في نهر سحري.» أو قولها: «كأنها كانت تهيم على وجهها عدة أيام في فلاة بلا ماء، وأني نافورة تتدفق منها المياه.» أو حين كانت تغطي أذنيها وهي طفلة كلما سمعت ما لا ترغب، على أنها حين حاولت صك أذنيها عن صراخ المعذبين في سجن إيفين، سمعت أصواتهم كما في الأصداف. كذلك حينما سألها المحقق عن رأيها في الزواج، حلق عصفور ثم اختفى في الشجر. كذلك ذهابها إلى بحر قزوين ومناجاته في حوار شعري بديع.
نصادف أيضا العديد من الصور الفلسفية مثل: «الصمت والظلام يتشابهان إلى حد بعيد، فالظلام غياب للضوء والصمت غياب للأصوات.» وفي وصفها اللحظة الفارقة بين الموت والحياة حينما اعتلت منصة المشنقة انتظارا لجذب الحبل الذي يفصلها عن غياهب الموت. كذلك لها تأملات وجودية مثل تساؤلها: «هل من الممكن ألا يندم الإنسان على شيء لحظة الوفاة؟» ومن المدهش أن نتعرف على لونها المفضل (الوردي) مع نهاية الرواية، بعدما أطلق سراحها من إيفين، وكأن العامين والشهرين السابقين كانت جميعها خالية من الألوان، عدا لون الظلال وحسب.
التداعي الحر للأفكار
Unknown page