ويمكن رصد أنواع الفتوى وحصرها في أربع حزم: الأولى هي الفتاوى الخاصة بالعبادات من صوم وحج وصلاة وزكاة. والثانية اجتماعية يتلقاها المفتي من السائل، وتتعلق بشئون شخصية وعائلية، وفي هذين النوعين عادة ما يلزم الشيخ السائل بحل بذاته وسلوك بعينه دون تفرقة بين ما هو عبادة وبين ما هو شخصي أو اجتماعي؛ فهم يزعمون أن أي سلوك للمسلم هو تعبد، وضمن هذا السلوك يأتي التزامه بالفتوى، التي تصبح أوامرها جزءا من العبادة، بينما الصواب هو أن يقدم الشيخ رأيه كنصيحة ومشورة غير ملزمة؛ لأنه شأن يخص الناس وليس شأنا من شئون الدين في ذاته. أما الحزمة الثالثة فهي الفتاوى التي تصدر عن دور الإفتاء، والتي تصدرها تلك الدور دون طلب من أحد ولا تتعلق بأمور العبادات، بل هي تأتي لإثبات الوجود كأنها قرارات جمهورية تلزم وتمنع وتسمح دون طلب من أحد، وهو ما أوقع الدبلوماسية المصرية في الحرج أكثر من مرة، حتى تم إنذار دار الإفتاء رسميا من وزير الخارجية المصري، للتوقف عن التدخل؛ ذلك التدخل الناشئ عن شعور المفتي بضعف الحكومة واحتياجها للكاهن باستمرار. مصيبة مثل هذه الفتاوى أنها لا تتوقف عند الحدود المحلية بل هي عابرة للقارات، رغم أنها إن صلحت في موطن قد تكون خرابا عاجلا غير آجل في موطن آخر. ورابع أنواع الفتوى هو تلك الحزمة من الفتاوى المتبعثرة الصادرة عن غير ذي صفة، تدعمها تيارات شعبية غير رشيدة، بها قتل السادات، وبها دمرت طابا، وشرم الشيخ، ودهب، والعريش، وبها جرت مذبحة الأقصر، وبها قتل فرج فودة، وبها نهبت بيوت الأموال فقراء المسلمين، وبها ندمر العراق ونقتل أبناءه. ويا ويح قلوبنا ما لنياطها لا تتمزق مما يفعله المشايخ والملالي بعراقنا الجميل.
حرمت الفتاوى التدخين فاختفت السجائر من البقالات وانزوت في الأكشاك، وأصبحت قاعدة دينية، ثم حشرت أنفها فيما هو أخطر فحرمت الفن، والاستنساخ، والتطعيم، ونقل الأعضاء، فأغلق بنك العيون أبوابه! وبما أن الفتوى تشريع قانوني قدسي فإنها تصعد إلى السماء، وعلى السماء هنا أن تفهم، وأن تسمع، وأن تعي، وأن تطيع، وأن تنفذ. فعندما يفتي المفتي بحرمة التدخين، يصبح من الضروري على ربنا أن يسمع الكلام، وأن يلتزم بالفتوى ويدخل المدخنين نار جهنم، كذلك عليه أن يعاقب جريمة نقل الأعضاء، وأن يعاقب المشتغلين بالفن، وأن يدخل غير المحجبة إلى النار، دون وجود نصوص عقابية في كلام الله في أي شأن من هذه الشئون، لكن على الله أن يقوم بالوظيفة التي أناطها به كهنة المسلمين؛ وظيفة الجلاد.
ومع اختلاف الفتاوى باختلاف ألوان الفقه ما بين جعفري شيعي، وسني، وزيدي، وغيره، لا بد أن يتساءل العقل المسلم: بأي فقه منهم سيلتزم ربنا ويقوم بدوره التنفيذي ؟ في نفس البلد الواحد مثل مصر تتضارب فتاوى الأزهر بالنقيض الكامل مع فتاوى دار الإفتاء (البنوك، ختان الإناث، كنماذج) فهل سيحتار ربنا هنا في تنفيذ الفتاوى المتضاربة، التي تصعد إليه أوامر من الأزهر ودار الفتوى والتشريع، ومن قنوات الجزيرة، والمجد، واقرأ، واكره، وأخواتهن، ومن ابن باز، وابن عثيمين، وابن جمعة، وابن لادن، وابن الزرقاوي، وابن قرضاوي، وابن هويدي، وابن عاكف، وابن العوا، وما أكثرهم؟!
ثم ما هو المعيار الذي سيستخدمه ربنا في الاختيار والمفاضلة بين تلك الأوامر والنواهي المتضاربة الصادرة إليه، مع ما يفرضه المفتي على الله لتعذيب من يعصي المشايخ، وإثابة من يرضون عنه؟
تحكي لنا كتبنا التراثية، أن نبي الإسلام في مرضه الأخير صلى قاعدا إلى جوار أبي بكر، «فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس وكلمهم رافعا صوته قائلا: يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله لا تمسكون علي شيئا، إني لم أحل لكم إلا ما أحل لكم القرآن، ولم أحرم عليكم إلا ما حرم القرآن» (الطبري سنة 11ه، ص198).
فالرسول صاحب الدين لم يحرم علينا إلا ما حرم القرآن، وترك لنا فيما عدا ذلك مساحة حرة واسعة، نتعامل فيها بعقولنا وحسب ظروفنا ومصالحنا، وهي المساحة التي لم يأت القرآن على ذكرها، فانقض عليها الكهنة ليؤمموها لصالحهم ليجدوا فيها مكانهم الدائم؛ ليحرموا علينا ما لم يرد في قرآن ولا سنة، كتحريمهم مستحدثات العلم والطب كالتطعيم والاستنساخ والتلقيح الصناعي وزرع الأعضاء، وهي شئون لا يعرفها الإسلام ولم تكن في سنة ولا في قرآن، فأضافوا للإسلام تحريمات ونواه دون وحي يوحى، علما أن من يبدع نصف دين أو ربع دين هو مبتدع لدين جديد غير دين الله، هو كاذب شرير علينا، وعلى الله، وعلى الدين، وهي البدعة الملعونة في الإسلام نصا وروحا، اصطلاحا ولغة؛ لأنها بدعة في الدين، إنهم بهذا المعنى من المتنبئين.
الفتوى اسمها فتوى شرعية، والدار الرسمي لها اسمه دار الفتوى والتشريع؛ لذلك هي قانون، ومع سيل الفتاوى المنهمر؛ أصبح كلام الفقهاء والمفتين في منزلة الوحي وشريعته، وأصبحت الفتوى قانونا دينيا ملزما إلزام الوحي، رغم أن كل ما قال الفقهاء، والمفسرون، والمفتون، وأصحاب المذاهب، قد صدر بعد توقف الوحي بموت النبي، وهو ما يعني أنها غير ذات سند سماوي ولا يمكن أن تكون في حجية شريعة محمد؛ لأنها جميعا من وضع البشر، إنها جميعا بهذا المعنى «وضعية» بكليتها، تشوبها نقائص الوضع مثلها مثل أي منجز إنساني آخر.
الشيخ إذن لا يملك أية قداسة بل هو لاعب بدين الله، ويضع رأيه الشخصي مقدما على الوحي الإلهي ويفرضه على المسلمين ويلزمهم به، ومع معرفتنا ذلك يجب أن تتراجع مهابة الشيخ الرهابية من أنفسنا؛ فهي حالة رهابية غير ذات سند ولا سلطان ولا شرع إلهي ولا أرضي.
إن السبب الحقيقي وراء فوضى المشايخ والفتاوى والدعاة في بلادنا أنه ليس لدينا مجلس تشريعي حقيقي، ولا قانون مدني حقيقي، وهو ما أدى إلى تآكل الدولة المدنية ومؤسساتها وتراجعها، ليحل الشيخ في كل محال اتخاذ القرار والسيادة الممكنة، وأمسى يمارس حقوقا لا يملكها غيره من المسلمين دون مبرر واحد ديني أو دنيوي يمنحه تلك الحقوق، ويرفض أن يكون لغيره من المسلمين مثل هذا الحق، ناهيك عن غير المسلمين من مواطنين. الشيخ يفكر، إذن على المسلم ألا يفكر؛ فقد قال الغزالي، وقرر ابن تيمية، وحسم ابن حنبل، وانتهى ابن عبد الوهاب ... هذا هو مقياس الأمور، وبه حسمها أيضا، أقوالهم هم، فيلعبون في شغل الله، ويعبثون بتخصصاته ليسلبوه بعضها، ويتهمون العلمانيين الضعاف من أمثالي بالعبث بدين الله مع تكفيري بغرض قتلي. فمثل هذه المقالة التي بين يديك مثلا هي عندهم عبث بدين الله، رغم أنها لم تفتر فتوى، ولم تضف إلى الإسلام، ولم تحذف منه شيئا، إنهم يلبسون على المسلمين أن من مسهم أو مس فتاواهم فقد مس الله ذاته، ألم أقل لكم إنهم يشتهون الربوبية! •••
إن صحيح الإيمان المفترض، يؤمن أن الله عندما ترك ما ترك دون تشريع أو تدخل، لم يكن سهوا منه ، فلا شيء عنده عبثا، إنما ما يجب أن يفهمه المؤمن أن الله ترك ما ترك قصدا، وعمدا؛ لأنه لم يرد التضييق على عباده بالإكثار من التشريعات، والتحريمات، والتجريمات؛ ليترك لهم عن قصد منه ورغبة مساحة حرية يمارسون فيها إنسانيتهم، يضعون لأنفسهم فيها ما يناسبهم من تشريعات؛ لأن الله كان يعلم أن الدنيا ستتطور، وكان يعلم أن الأحوال ستتبدل لأنه هو الله، وليس غيره إله، أليس هكذا يعتقد المسلمون؟
Unknown page