منذ اللحظة الأولى التي شاهد فيها الصبي بزيه الأبيض عرف للوهلة الأولى قدر وسامته، وبدا كابتن «وينتربوتوم» وكأنه قرأ أفكاره، فقال: إنه نموذج مشرف وجميل .. أليس كذلك؟ إنه يعيش معي منذ أربع سنوات، وعندما جئت به كان ولدا صغيرا في حوالي الثالثة عشرة، وهم في مثل هذا العمر كما أرى لا يدركون شيئا من أعمارهم .. كان في ذلك الوقت لا يعرف شيئا عن أي شيء. - إنهم كما قلت لا يدركون شيئا عن أعمارهم وعن السنين و... - إنهم يعرفون المواسم .. أنا لا أعني ذلك، ولكن إذا سألته عن عمره فلن يعرف.
عاد الصبي بالمشروبات.
قال السيد «كلارك» وهو يتناول مشروبا: أشكرك جدا.
حول المصباح عند الركن كان عدد هائل من الذباب والحشرات محتشدا، وسرعان ما تساقطوا فوق الأرض زاحفين .. ظل كلارك يتابعهم باهتمام. - هل هذه الحشرات تلسع؟ - لا .. إنها لا تؤذي، وإنما هكذا يتساقطون بعد الأمطار .. لقد قلت شيئا عن «آلين» .. أعتقد أنك وصفته بالأناقة والاعتداد بالنفس. - إنه مجرد انطباع. - أرى أنك واحد من التقدميين. وعلى أية حال فعندما تطول إقامتك هنا لفترة أطول مما أقام «آلين»، وتتمكن من فهم الناس بصورة أشمل، ستبدأ حينئذ في رؤية الأشياء بشكل مختلف .. أنت لم تر كما رأيت أنا رجلا يدفن حتى رقبته وفوق رأسه قطعة من اليام المحمر لجذب النسور .. هل تعرف؟ حسنا .. لا عليك؛ فنحن البريطانيين مجموعة من الفضوليين نفعل كل شيء بلا حماس .. انظر إلى الفرنسيين. إنهم لا يخجلون من تعليم ثقافتهم إلى الأجناس المتخلفة، وموقفهم تجاه حاكم هذه الشعوب واضح .. يقولون له: إن هذه الأرض ملك لك لأنك تملك من القوة ما يكفل لك رعايتها والإمساك بها، وإذا لم تكن راضيا فتعال وحاربنا .. أما نحن البريطانيين فماذا نفعل؟ .. إننا نتخبط من طريقة إلى عكسها، نحن نبتعد عن طريقنا، ونأتي بمن ليس لهم شأن ثم نصنع منهم الزعماء .. إنهم يسببون لي المرض.
رشف ما تبقى من كأسه، وصاح مناديا «بونيفيس» من أجل كأس آخر، ثم قال مستطردا: أنا حقا لا أهتم إذا ما تركوا هذا الاضطراب والعبث لأولئك المتزمتين القدامى في لاجوس، ولكن إذا ما تعلق الأمر بتلويث سمعة ضباط السياسة الصغار فإنني سأترك مكاني، وبعد هذا ندعو الشخص الإيجابي بأنه أنيق.
اعترف «كلارك» بأن حكمه كان عن جهل ويجب أن يعمل على مراجعته. - «بونيفيس». - نعم. - كأس آخر للسيد «كلارك». - لا .. لا أريد حقا؛ فأنا أعتقد أن ... - لا تعتقد شيئا .. إن العشاء لن يكون جاهزا قبل ساعة أخرى، فلتجرب شيئا آخر إذا شئت .. ويسكي مثلا.
طلب «كلارك» كأسا آخر من البراندي ولكن دون رغبة منه في مزيد من الشراب وهو يفكر في موضوع جديد. وكان حظه حسنا حين أبصر مجموعة من البنادق موضوعة بعناية كالتذكارات بالقرب من الشباك السفلي لحجرة المعيشة، فقال: إنها مجموعة ممتازة من الأسلحة النارية، هل هي بنادق أهل البلد؟
شعر عندئذ أنه تورط في الحديث.
قال كابتن «وينتربوتوم» بلهجة مختلفة: هذه البنادق لها حكاية طويلة وشيقة .. كان أهل «أوكبيري» وجيرانهم من «أوموارو» أعداء أو هكذا كانوا قبل مجيئي .. نشبت بينهم حرب ضارية من أجل قطعة من الأرض، وكان النزاع القبلي نزاعا سيئا لكن «أوكبيري» تصرفت بتحرر وحكمة، ورحبت بالرسل المبعوثين وبالحكومة، في الوقت الذي أصرت فيه «أوموارو» على تخلفها حتى ما يقرب من السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة .. يمكنني القول بتواضع شديد إن هذا التغيير لم يحدث إلا بعد أن جمعت كل الأسلحة وحطمتها أمامهم في نفس المكان، باستثناء هذه المجموعة التي تراها .. سوف تذهب هناك كثيرا. وإذا ا سمعت أحدا يتحدث عن «أوتيجي إيجب» فلتعرف إذن أنهم يتحدثون عني. إن «أوتيجي إيجب» تعني محطم الأسلحة .. حتى الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام ينتمون إلى تلك المرحلة الجديدة لتحطيم الأسلحة.
قال «كلارك»: شيء مثير حقا، شيء مدهش .. وكم تبعد هذه القرية الأخرى التي تدعى «أوموارو»؟ - أوه .. ليس سوى ستة أميال تقريبا، لكنهم يعتبرونها بلدا أجنبيا، وهي لا تشبه بعض القبائل المتقدمة في شمال أو غرب «نيجيريا» .. إن «الإيبو» لم يطوروا أبدا أي نوع من السلطة المركزية؛ ولهذا فشلت قيادتنا في التقدير. - نعم .. لقد فهمت. - بدأت الحرب بين «أوموارو» و«أوكبيري» بطريقة غريبة ومثيرة للدهشة .. كنت قد ذهبت إلى هناك، وثمة تفاصيل في الاعتبار.
Unknown page