(١٢٦ ب) بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدكَ يا مَنْ نوَّرَ مقاماتِ البلغاءِ بمصابيحِ المعاني، وزَيّنَ ألسنةَ الفصحاءِ بجواهرِ اللُّغَى ويواقيت المباني، وصَرَفَ مالهم مِن الخُطا عن نهج الخَطا، وكَشَفَ لهم عن وجهِ الصوابِ ذيّاكَ الغِطا، ونصلي ونسلمُ على مَنْ هو سابقُ البلغاءِ في حَلْبَةِ اللُّغَى، ومِصْقَعُ (١) مصاقعِ الخُطباءِ فليذرِ اللّغْوَ مَنْ لَغَا، محمدٍ الناطقِ بالصوابِ، الهادي إلى هَدْي الثوابِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأزواجِهِ وأحبابِهِ، ما اختلفتِ المباني اختلافَ الأشباحِ، وائتلفت المعاني مثلَ ائتلافِ الأرواحِ. أما بعدُ فيقولُ الفقيرُ الواهي والحقيرُ اللاهي، مَنْ هو المقصورُ على القصورِ الجَلِي، محمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ الحنبليّ، الحلبيّ مولدًا، الربعيّ مَحْتِدًا (٢)، القادريّ مَشْرَبًا، الحنفيّ مَذْهَبًا، صِينَ عن سَهْمِ الوَهْمِ، ولا شِينَ بشيءٍ من سَيِّئٍ الفَهْمِ: لمّا احتجَّ أهلُ الأدبِ، وطمحَ نظرُ مَنْ تأدَّبَ إلى كتابِ (دُرَّةِ الغَوّاصِ في أوهامِ الخَوَاصِ) (٣) للأديب الأصمعيّ والأريبِ الألمعيّ أبي محمد القاسم بن عليّ الرَبعيّ (٤)، كُسِيَ في دارِ النعيم حريرًا، ولا برحَ طَرْفُهُ في مقامِ التنعمِ بها قَرِيرًا، لِما أَنّهُ في عقدِ الفنونِ الأدبيةِ دُرَّة، وفي علومِ العربيةِ غُرَّة، تميلُ إليه النفوس بالمَرَّة، وتَطْمَحُ إليهِ الأنظارُ لما أَنَّهُ قرَّة، وإنْ كانَ للمَهَرَةِ في مضمار القدح في مُهْرَة، وللأذكياءِ في
_________
(١) المصقع: البليغ يتفنن في مذاهب القول.
(٢) المحتد (بفتح فسكون فكسر): الأصل.
(٣) طبع أكثر من مرة.
(٤) هو الحريري صاحب المقامات، ت ٥١٦ هـ. (الأنساب ٤ / ١٣٨، نزهة الألباء ٣٧٩، إنباه الرواة ٣ / ٢٣) .
1 / 23
هيجاءِ البحثِ فيهِ سَيْفٌ ذو شُهْرَة، أَحْبَبْتُ أنْ أُذَيِّلَهُ تذييلًا، وأَضمَّ إلى استعارتِهِ المكنيةِ مني تخييلًا، فشمرَّتُ الذَّيْلَ، ووضعتُ بإذنِ اللهِ تعالى هذا الذَّيْلَ، تذكرةً لإخواني، وتبصرةً لجلةِ خلاّني، وسمّيْتُهُ (سَهْمَ الألحاظ في وَهْم الألفاظ)، إذْ كانَ صَرْفُ هذا السَهْمِ إلى طَرْفِ هذا الوَهْمِ، حيثُ لا حصول للإصابةِ في حيزِ الوصولِ والإصابةِ. واللهَ أسألُ، وإنَّ سواهُ لن يُسأَلَ، أنْ ينفعَ بهِ القاصي والداني، والمثري والعاني، وأنء لا يجعله مَطْمَحَ أنظارِ القادِحين، ولا مطرحَ أَعْراضِ ما لهم ولو مِن بعدِ حِين، ولكن مظنّة لمقبولِ النقول بل مئينة لقبولِ ذوي العقول ما نقول، وسببًا للدعاءِ الجميلِ في العاجِلةِ وطريقًا إلى (١٢٧ أ) الجزاءِ الجليلِ في الآجِلةِ. إنّهُ على كل شيءٍ قديرٌ، وبالإجابةِ معينٌ وجديرٌ.
١ - فمما وهموا فيه وغلطوا: (السُّبْحَةُ) ، بضَمِّ السينِ. والصحيحُ فتحها. وهي بالسينِ أفصحُ من الصادِ، بتصريحِ من صاحبِ القاموس (٥)، فهي على عَكْسِ " صِراط " (٦) لما أَنّهُ بالصادِ أَفْصَحُ من السينِ. ومن ثمَّ جَزَمَ الجَعْبَرِيّ (٧) اختيارَ قراءةِ الصادِ فيه لأنّها الفُصحى القرشية.
_________
(٥) هو مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ت ٨١٧ هـ. (الضوء اللامع ١٠ / ٧٩، بغية الوعاة ١ / ٢٧٣، أزهار الرياض ٣ / ٣٨. وينظر: القاموس ١ / ٢٢٦.
(٦) الفاتحة ٦، ٧ وسور أخرى (ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ٤٠٧) .
(٧) إبراهيم بن عمر، عالم بالقراءات، ت ٧٣٢ هـ. (طبقات الشافعية الكبرى ٩ / ٣٩٨، غاية النهاية ١ / ٢١، النجوم الزاهرة ٩ / ٢٩٦) . وينظر: الإقناع في القراءات السبع ٥٩٥، سراج القارئ ٣١، شرح تلخيص الفوائد ١٩.
1 / 24
٢ - ومن ذلكَ: (الأُنْموذَجُ) ففي القاموس (٨): النّموذَجُ، بفتح النونِ: مِثالُ الشيءِ [مُعَرَّبٌ]، والأُنموذجُ لحْنٌ. ولا عِبْرَةَ بقولِ مَنْ سَبَقَهُ كصاحِبِ المُغْرِبِ (٩) حيثُ قال: النّموذَجُ، بالفتح، والأُنموذَجُ، بالضَّمِّ: تعريبُ نَمُوذَه. وكالتّفْتازانيّ (١٠) حيثُ جَزَمَ في مباحثِ الفصاحةِ من شرحِ المفتاح بأنَّ الأُنموذَجَ مُعَرَّبُ نموذه أو نمودار مُقِرًّا للسّكّاكيّ (١١) على استعمالِهِ في مفتاحِهِ.
٣ - ونظيرُ تعريبِ نوذه، إذ صارَ آخِرُهُ جيمًا، تعريبُ (ساذه) (١٢) حتى قِيلَ: ساذَج (١٣)، على مثال قالَب. وليسَ ساذَج كلمةً عربيةً لِما ذَكَرَهُ الجواليقيّ (١٤) من أَنّكَ إذا مَرَّتْ بكَ كلمةٌ اجتمعَ فيها السينُ مع الذالِ فحُكْمُها أَنّها كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ عن كلمةٍ أُخرى عَجْمِيّةٍ.
_________
(٨) القاموس ١ / ٢١٠ وما بين القوسين منه.
(٩) هو ناصر الدين المطرزي، ت ٦١٠ هـ. وقوله في المغرب ٢ / ٣٢٨.
(١٠) هو مسعود بن عمر، ت ٧٩٣ هـ. (الدرر الكامنة ٥ / ١١٩، بغية الوعاة ٢ / ٢٨٥، مفتاح السعادة ١ / ٢٠٥) .
(١١) هو يوسف بن أبي بكر صاحب مفتاح العلوم، ت ٦٢٦ هـ. (معجم الأدباء ٢٠ / ٥٨، بغية الوعاة ٢ / ٣٦٤، مفتاح السعادة ١ / ٢٠٣) .
(١٢) في القاموس ١ / ١٩٣ وشفاء الغليل ١٤٨ والألفاظ الفارسية المعربة ٨٨: (ساده) بالدال المهملة.
(١٣) المعرب ٢٤٦.
(١٤) هو موهوب بن أحمد، ت ٥٤٠ هـ. (نزهة الألباء ٣٩٦، معجم الأدباء ١٩ / ٢٠٥، إنباه الرواة ٣ / ٣٣٥) .
1 / 25
٤ - ومِن ذلكَ: (الحِجْرةُ) بالكسر فالسكون: للأُنثى من الخَيْلِ. ففي القاموس (١٥) أيضًا ذَكَرَ أنَّ الحِجْرَ من غيرِ هاءٍ للأُنثى منها وأنّها بالهاءِ لَحْنٌ.
٥ - ومن ذلكَ: (إقْلِيدِسُ) ففي القاموس (١٦) أيضًا: (أُوقْلِيدِسُ، بالضَّمِّ وزيادة الواو: اسمُ رجلٍ وَضَعَ كتابًا في هذا العلم المعروفِ، وقولُ ابنِ عَبّادٍ (١٧): إقْلِيدِس اسمُ كتابٍ، غَلَطٌ) . ووَجْهُ تغليطِهِ إيّاه حذفُ الواوِ لا جَعْلهُ اسمَ كتابٍ، لأنّهُ قد أطْلِقَ على كتابِ ذلكَ الرجلِ كثيرًا بطريقِ المجازِ، ككتبٍ كثيرةٍ أطْلِقَ عليها أسماء واضِعِيها. ولقد كثرَ استعمالُ إقليدس بدونِ الواوِ في كلامِ المولدين حتى كانَ من قبيلِ الغلطِ المشهورِ. ومنه ما وَقَعَ في قولِ بَعْضِهِم (١٨): مُحِيطٌ بأشكالِ الملاحةِ وَجْهُهُ كأنَّ به اقْلِيدسًا يتَحدَّثُ فعارضُهُ خَطُّ استواء وخالُهُ بهِ نُقْطَةٌ والشكْلُ شَكْلٌ مُثَلّثُ ٦ - ومِن ذلكَ: (الكُسُّ) للحِرِ. والصحيحُ أنْ يُقالَ: حِرٌ. ففي القاموسِ أيضًا (١٩): الكُسُّ، بالضَّمِّ، للحِرِ ليسَ من كلامِهم، إنّما
_________
(١٥) القاموس ٢ / ٤.
(١٦) القاموس ٢ / ٢٤٢. وينظر: تثقيف اللسان ١٤١، خير الكلام ١٨.
(١٧) هو الصاحب إسماعيل بن عباد، ت ٣٨٥ هـ. (يتيمة الدهر ٣ / ١٩٢، معجم الأدباء ٦ / ١٦٨، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨) .
(١٨) ابن جابر الضرير في نفح الطيب ٢ / ٦٨١.
(١٩) القاموس ٢ / ٢٤٦.
1 / 26
هو مُوَلّدٌ. هذا كلامُهُ. ويلزمُ منه أنْ يكونَ غَلَطًا بالنسبة إلى كلامِ العربِ العرباء. وعلى استعمالِهِ في كلامِ المولّدِين قولُ مَنْ قالَ: جاءَ الشتاءُ وعندي مِن حوائِجِهِ سَبْعٌ إذا القَطْرُ عن حاجاتنا حُبِسا كِنٌّ وكيسٌ وكانونٌ وكاسُ طلا مع الكباب وكُسّ ناعم وكِسا (٢٠) (١٢٧ ب) ولكونِهِ مُوَلّدًا لم يُجْمَعْ بَيْنَهُ وبَيْنَ الكَمَرَةِ في بَيْتِ مَنْ جَمَعَ بينَ الأعضاءِ العشرةِ التي في أوائلِ أسمائِها الكافُ في بَيْتٍ واحِدٍ فقالَ: إنْ قُلتَ كم في الفتى عضو بأَوَّلِهِ كافٌ فخُذْهُ مني عدًّا يبلغُ العَشَرة كَفٌّ وكَعْبٌ وكشْحٌ كاهِلٌ كَتِفٌ كوعٌ كلى كبدٌ كرسوعٌ الكَمَرَة والكَمَرَةُ، بفتحتين: واحِدةُ الكَمَر، كالثّمَرَةِ واحِدة الثّمَرِ. والمكمورُ: الرجلُ الذي أصابَ الخاتنُ طرفَ كَمَرَتِهِ. وكامرْتُهُ فكمرتُهُ أكمرُهُ: إذا غلبته بعظم الكَمَرَةِ. .
٧ - ومن ذلكَ: (المَرْدَكُوش) بالكافِ، للمَرْزَنجوش. وإنّما هو بالقاف، مُعَرَّبُ مُرْدَه كُوش، بضم الميم، وقد عَرَّبوه بفتح الميم وقلب الكافِ قافًا دون حذف الهاء لثبوتِها خَطًّا فقط. وتفسيره بالمرزنجوش، بزيادةِ نونٍ قبلَ الجيم، هو ما في القاموس (٢١) .
_________
(٢٠) البيتان لابن سكرة في شرح مقامات الحريري للشريشي: ٣ / ٢٥٣ (طبعة أبي الفضل) والنجوم الزاهرة: ٥ / ٣٥٨.
(٢١) القاموس ٢ / ٢٨٧.
1 / 27