إن كان هذا يكفيك أيها الأخ العامل العثماني، فالحمد لله على خدمتك وخدمة إخواني.
الغلو في المدح - التذلل - الذي ينقصنا أكثر من الذي عندنا
غاظني صديقي «نقاد»، ولكن لا آخذه الله بجريرته. سبقني إلى هذا الموضوع فأجاد وأفاد. ولو كان يدري أن أخاه زهيرا ورم أنفه في إعداده لتخطاه إلى غيره. على أنني لست مكررا ما سبقني إليه. فليطب قراء المقطم نفسا. بلى ربما جئتهم من تجاربي بأشياء تعظهم كما تفكههم.
نحن الآن في عصر دستوري. والدستور رأسه التساوي وركنه الحرية. ومتى تساوى الأحرار بطلت عادة التراجح في الحقوق، وبقيت عادة التراجح في الأعمال. هذه قضية لا تنقض. وكل من حاول أن يقيم الدليل على بطلان حكم بديهي، لم يزد على أن يضحك الناس من عقله.
أما عصر الاستبداد الذي دالت دولته، فعصر لا يقاس بغيره. كان أعجوبة في كل شيء من أشيائه. خذ عقل أحد السوقة وتدرج في مراتب العقول إلى أن تنتهي إلى عرش الملك، فلن تجد فرقا في الإدراك. وكثيرا ما فضل السوقة إخوانهم الملوك. وإن رجلا يشمخ بأنفه لمخمل يلبسه ساعتين ثم ينزعه ليبقى في صندوقه طول أيام سنته، لمزراء في عقله مظلوم من الطبيعة في حصته من الإدراك. وإذا كان فضل المرء بلبوسه فإن في الحيوانات والطيور ما لا يسمو إلى جماله ملك من الملوك. أي قائد من قواد الجيوش في ثيابه الذهبية وسيفه المرصع ووساماته المتلألئة، يضارع الديك الهندي في جمال عرفه وبهاء ريشه واختياله في مشيته، بل أية ملكة تشبه الطاووس إلا إذا شبهها به المتشبب في بعض أشعاره؟
وبعد، فلا حجة لأهل القدم على أهل الجدة في طلب التمسك بالعادات والنحل، إذا كانت تلك العادات والنحل مثالب لأهلها.
كانت جرائد الأستانة إذا مدحت «سلطان البرين وخاقان البحرين» قالت: تنبت الأرض ببركته، وتمطر السماء بجوده. وقالت إحدى الجرائد سامحها الله: إنه المقصود بخطاب «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك»، وكانت تشبه عربته بالفلك. وما زاده ذلك إلا غرورا وما زادنا إلا ويلا. ولقد بلغ الغلو بالقوم أن صاروا يكتبون ما لا معنى له. حتى سألني أحد فضلاء الفرنسويين أن أترجم له جملة منها ليكتبها في مؤلف له فلم أستطع.
وكذلك اعتاد الناس التذلل. فإذا قال أحدهم لكبير من الكبراء: جئتك أو زرتك، عد ذلك من الذنوب التي لا يتناولها الغفران، وإنما ينبغي أن يقول: جئت لأمرغ وجهي على تراب قدميك. ويقول بعضهم لبعض: كانت جاريتك امرأتي، وقال: عبدك أبي، وجاء مملوكك ولدي. ومثل هذا كثير لم يخطر على بال القائمين «بتصفية اللسان العثماني» أن يزيلوه من اللسان. وإلى هذا أشار أبو الأدباء الأتراك وفخرهم المرحوم نامق كمال بك الشهير في قصيدة له فقال:
خاكه يوزسور مكله قائمسه يراوستنده حيات
اختيار ايت التني خاكك حياتك رغمنه
Unknown page