وسبق ظلام الحرب قيام الحكومة العثمانية بتعديل «قانون المطبوعات» لزيادة التشديد على الصحافيين الأحرار واضطهادهم، فأقيمت على بعض الكتاب وأرباب الصحف الدعاوى في المحاكم، بحيث بلغت 48 دعوى في غضون خمس سنوات خرجوا من أكثرها أبرياء وغرموا في بعض القضايا.
وكانت إدارة الحكم ثنائية بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية للعثمانيين فإذا تعرضت جريدة للجيش أو الشرطة تحفزت السلطة العسكرية للتنكيل بالصحفي والحكم عليه، وفي بعض الأحيان وجدنا هاتين السلطتين تصطدمان ببعضهما بعضا كما جرى لصاحب جريدة «الإيقاظ» سليمان فيضي عندما انتقد «الدرك»، فهم قائد الجيش في البصرة بحبسه، ولم تفد حماية وكيل الوالي له إلا أن قوة المعارضة الأهلية تجمعت فأطلقته من الموقف.
نشرت جريدة «الرياض» قصيدة «لمحمد الهاشمي» عرض فيها بالطغاة في إيران والظلم اللاحق بالمسلمين في تونس والجزائر، وما يعانيه أهل القفقاس من ذل، ودعا الشاعر على قيصر الروسية بمنقلب الظالمين، فما كان من الحكومة التركية في بغداد إلا أن قاضت الصحافي والشاعر، فحكمت المحكمة على كل منهما بالسجن ثلاثة أشهر.
ولم يكن الوالي العسوف يتورع من أن يضرب الصحافي بيده، كما حدث لإبراهيم حلمي العمر، الذي كتب في جريدة مصرية مقالا حمل فيه على الاتحاديين والوالي يومئذ في العراق جاويد بك، وبيده قيادة الجيش أيضا بعد أن أعلنت الحرب فحبس الوالي الكاتب أولا ثم جاء به إلى ردهة استقباله في ديوانه وصار يضربه ضربا مبرحا بعصاه على مرأى ومسمع من الجمهور، فتشفع له زميل هو صادق الأعرجي صاحب جريدة «الرصافة» الذي أصبح عضوا في مجلس الولاية بعد اعتزاله الصحافة، فأنقذه من مخالبه.
ولما وجدت الحكومة أن صحف البصرة تتمتع بنوع من الحصانة مكتسبة من هيبة زعيم المعارضة هناك «طالب باشا النقيب»، وتأثيره على السلطة مما يجرئ هذه الجرائد على الإمعان في النقد والمقاومة، أوفدت وزارة الداخلية في إستانبول إلى والي البصرة في أخريات سنة 1913 بإقفال جميع الصحف الموجودة في الثغر والإمساك عن منح امتياز أية جريدة جديدة.
وما أن احتلت الجنود الإنكليزية البصرة بعد اندلاع نيران الحرب الأولى حتى شددت الحكومة العثمانية الخناق على الصحافيين وطاردتهم بحجة ظروف الحرب الاستثنائية، فعطلت الجرائد الأهلية كلها ولم تبق إلا جريدة واحدة «الزهور» لصاحبها «محمد رشيد الصفار» لموالاتها للحكومة وتأييدها سياسة الحاكمين. وقد ثبت الرجل على خطته ولم يتحول عنها حتى إذا انسحب العثمانيون من بغداد إزاء زحف القوات البريطانية التحق بهم، واستأنف عمله الصحفي في الموصل بعد أن جعل جريدته الجديدة باسم «دعوة الحق».
ورأى العثمانيون في سحابة الحرب أن يستعينوا بالصحافة في بث الدعاية لهم والتشنيع لمحاربيهم، فأسسوا في بغداد جريدة يومية دعوها «صدى الإسلام» باللغتين العربية والتركية، يشرف على نشرها الجيش برئاسة قائده العام في هذه المنطقة نور الدين بك الذي عرف بعد ذلك في تاريخ النهضة الكمالية باسم نور الدين باشا «فاتح أزمير»، وناطوا إدارة سياستها برئيس بلدية بغداد رءوف الجادرجي.
وعني حزب الاتحاد والترقي بهذه الصحيفة عناية كبرى، فاختار لها خيرة الكتاب في اللغتين، فكتب فيها من الترك الدكتور حكمت ثريا بك بالتركية، كما كتب فيها بالعربية من العراقيين محمود الوادي وعطا الخطيب الأديب الشاعر وإبراهيم حلمي العمر، وخيري الهنداوي الشاعر، وعبد الرحمن البناء الشاعر، والزهاوي وبعض أدباء النجف الأشرف، وقد نشرت مقالات بلهجة حادة في تدعيم سياسة الاتحاديين وتنفيد بعض ما تنشره جريدة القوات الإنكليزية الممثلة في البصرة المسماة «الأوقات العراقية». وقد نشر «فائز الغصين» في كتابه «المظالم في سورية والعراق والحجاز»
1
رسالة منقولة عن «المقطم»، وردت من بغداد تصف هاتين الجريدتين «الزهور وصدى الإسلام» بأن «شأنهما الدفاع عن الاتحاديين وإطراؤهم وقلب الحقائق ونشر الأضاليل».
Unknown page