وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسا، أما بعد تداخل الأجانب في أحوال المالية، فلم ير إسماعيل بدا من جعل حكومته شورية، فشكل مجلس النظار برئاسة نوبار باشا، وصادق على تعيين ناظرين أحدهما إنجليزي، وهو المستر ولسن للمالية والآخر فرنساوي وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية، فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئا من نفقات الجند فرفت جانبا منهم، فثار المرفوتون وجاء جماعة منهم، وفيهم 400 ضابط إلى نظارة المالية وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء، وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم. أما هم فحالما رأوه ذعروا، وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفئوا راجعين، والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل.
نوبار باشا.
ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصا من عبء التبعة لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا على أن ذلك لم يقلل من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس ولكنه كان في مقاصد إسماعيل؛ لأنه استعظم أغلال يديه بمجلس فيه ناظران فقلب هيئة ذلك المجلس في 7 أبريل عام 1879، وأخرج الناظرين الأجنبيين وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا، فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا؛ لأنهما اعتبرتا تلك المعاملة إهانة لهما، فعمدتا إلى الانتقام فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرا وجهرا وفي 25 يونيو سنة 1879 صدر الأمر الشاهاني بإقالته، وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي 30 منه، وقيل: في 29 سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومنها إلى أوربا وما زال بعد سفره مقيما في أوربا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الأستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله في 6 مارس عام 1895م، وله من العمر 65 عاما فحملت جثته إلى مصر، ودفنت فيها باحتفال لم يسبق له مثيل.
أعماله وآثاره
قلنا: إن إسماعيل باشا كان شغفا بتنظيم المدن حتى قيل: إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس في النظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها وأكثر من فتح الشوارع الجديدة، وبناء الأبنية الفاخرة كالأوبرا الخديوية والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق والمكتبة الخديوية بالقاهرة وهما من أجل الآثار وأنفعها، وأما المتحف فقد أنشأه بأمره ماريت باشا وقبره فيه وكان المتحف أولا في بولاق، ثم نقل على عهد الخديوي توفيق إلى سراي الجيزة، وهو اليوم في بناية فخمة شيدت له خاصة بجوار قصر النيل. أما المكتبة فقد كانت أولا في درب الجماميز، ثم أقيم لها بناء خاص في ميدان باب الخلق نقلوها إليه، والمكتبة نفيسة تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية؛ لما حوته من الآثار العلمية وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.
ومن أعماله أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلا بالقرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق فاستجلب آلات الإطفاء.
وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن فقسم القطر المصري إلى 14 مديرية، وعين لها المراكز، وأسس مجلس النواب ونظمه ونظم مجلس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكل روابط وحدودا، ووضع نظام المجالس الحسبية، وأنشأ مجلس حسبي القاهرة. وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي نوبار باشا، وقد أراد بها تقليل نفوذ القناصل وحصر النفوذ الأجنبي، ولكنها كانت سببا لزيادة النفوذ واتساع دائرة المداخلة. وكانت مصلحة البريد قبلا شركات أجنبية، فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن وحسن مطبعة بولاق وزاد فيها، وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملا للورق ونشط المطبوعات فلم يكن في القاهرة قبله إلا جريدة الوقائع المصرية، ولم تكن تصدر على نظام فجعل لها إدارة خاصة بها. وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية كجريدة التجارة ومصر والوطن والأهرام والكوكب الإسكندري وغيرها، وبالجملة فقد كان للعلم في أيامه نهضة مرجع الفضل فيها إليه؛ لأنه كان يقرب العلماء ويجيز المجيدين منهم، ويأخذ بناصرهم ماديا وأدبيا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه، ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده وقد يقف عند تقديمها تنشيطا لهم.
ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية، فأنشأ كثيرا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ومد أسلاك التلغراف حتى وصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات التجارية والعربات والآلات التلغرافية، التي أحدثها بين عام 1281ه و1290ه 9658327 جنيها على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.
ومن آثاره مدينة الإسماعيلية بناها على قنال السويس وسماها باسمه، وجعل فيها الحدائق والقصور. وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر وزين حديقة الأزبكية بغرس أشجارها، وتسويرها وغيرها من الأعمال الهامة.
ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق، وإتمام فتح السودان وإخضاعها فافتتح مملكة دارفور عام 1291ه، وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض الجنوبي وراء خط الاستواء. وعني بتحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكة، وفتح سدا كبيرا جنوبي مديرية فشودة طوله ستون ميلا كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرا. ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة.
Unknown page