وهوت ضربات معوله بعد ذلك في نظام وعناية، وأخذ يقطع الصخر متجها إلى الشرق ... واختلطت قطرات عرقه المتصبب بزبد فمه اللاهث، وأحس أنه سيموت قبل أن تنتهي ساعات العمل، وفي اللحظة التي انطلقت فيها الصفارة مؤذنة بانتهاء ساعات العمل كان قد غلبه الإعياء، وكان يتحرك وكأنه فاقد الوعي، كان كل ما يشعره بأنه في عداد الأحياء رنين السلاسل الثقيلة في أقدامه وأقدام زملائه، الذي يصل إلى أذنيه كأنه حفيف أغصان.
وجلس يستريح، وعاد إليه وعيه، واسترد حواسه رويدا رويدا ... وجد نفسه يجلس على صخرة وأمامه وعاء طعامه، وامتد بصره إلى الأمام ... إلى الشرق حيث أشار الحارس.
ورأت عيناه الأفق البعيد حيث يلتقي الجبل بالسماء، إن هذا الأفق لا يمثل نهاية الشرق، إن الصخر يمضي بعد هذا الأفق إلى ما لا نهاية.
هل تصل ضربات معوله إلى هذا الحد الذي تمثله له عيناه؟ هل يصل يوما إلى هذا الأفق ويعرف ما وراءه من حياة، أم أن أجله سينتهي قبل أن يفرغ من قطع الصخر حتى الأفق البعيد؟
وتعبت عيناه من التحديق أمامه ... فأغلقهما، وأخذ يغوص في أعماق نفسه يستنهض ذكريات ما مر به حتى اليوم ... ومر بأعوام حياته الأولى سريعا، وقفز خياله إلى ماضيه القريب منذ أربعة أعوام ... الدار الهادئة الجميلة في شارع الحلمية حيث يقيم هو وزوجته ... وغص حلقه، وهو يزدرد طعامه الجاف ... كأن شبح خديجة زوجته لم يعبر في حياته من قبل، وكأنه مر به مع طعامه الجاف في حلقه.
يا لخديجة من قسوته هو! ترى ماذا تفعل الآن؟
وعادت ذكرياته ... وقف أمام المرآة يرتدي ثيابه بعناية، ووقفت خلفه خديجة تزيل ما علق بثوبه من غبار، واستدار ليرى وجهها فأخذت تصلح من رباط رقبته، وهي تقول: دائما لا تحكم رباط رقبتك ... ما هكذا يفعل الشبان، إلى أين ستذهب الآن؟
وأجابها: كالمعتاد ... صالون عم محمود لأحلق ذقني، ثم إلى المكتب ساعة، ثم إلى النادي. - لتلعب الطاولة؟ - لألعب الطاولة ... ثم أكون هنا في العاشرة ... العاشرة تماما. - وغدا؟ ... لا صالون عم محمود، ولا مكتب ولا طاولة ... غدا الخميس. - غدا نذهب إلى السينما ... سأحلق ذقني ظهرا قبل عودتي إلى المنزل ... غدا أنا تحت أمرك.
ويغادر الدار بعد هذا الحديث ... وتشيعه خديجة حتى الباب، ويمضي في الطريق ليجد عم محمود جالسا أمام حانوته يدخن نارجيلته، وأمامه كوب الشاي، ويرمقه من بعيد كما يرمقه كل يوم فيجده كما هو كل يوم، جالسا في اطمئنان وراحة، يعب دخان النارجيلة حتى يمتلئ صدره، ثم ينفثه في هدوء وإشراق، ثم يمد يده فيرشف رشفة من كوب الشاي.
لطالما حسد عم محمود، ولطالما فكر فيه ككائن يعيش بين الأحياء، كان يسأله أحيانا: كيف الحال يا عم محمود؟ باين عليك مبسوط النهاردة.
Unknown page