أصاب هذا الخطاب المكتوب جيدا أمي بجرح بالغ، مثلما قالت أمي. توقفت وفلورا عن تبادل الرسائل. صارت أمي منشغلة حقيقة بحياتها الخاصة، وأخيرا صارت أسيرة لها.
مع ذلك، كانت أمي تفكر في فلورا. بعد سنوات، عندما كانت تتحدث في بعض الأحيان عن الأشياء التي كان بإمكانها أن تكونها أو تحققها، كانت تقول: «لو قدر لي أن أكون كاتبة - وأظن أنني كنت أستطيع أن أكون كذلك؛ كنت أستطيع أن أكون كاتبة، وقتها كنت سأكتب قصة حياة فلورا. هل تعلمين ماذا كنت سأسمي قصتها؟ «المرأة العذراء».» «المرأة العذراء ». قالت هذه الكلمات في نغمة تتسم بالجلال والعاطفية المفرطة لم أكن بحاجة إليها، كنت أعرف - أو أظنني كنت أعرف - تماما قيمة ما كانت تجده في هذه الكلمات؛ الجلال والغموض، الإشارة إلى نقد تحول إلى توقير. كنت أبلغ من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عاما في ذلك الوقت، وكنت أعتقد أنني أستطيع قراءة عقل أمي، كنت أستطيع أن أرى ما كانت ستفعله بشخصية فلورا، وما فعلته فعلا. كانت ستصنع منها شخصية نبيلة، شخصية تتقبل بصدر رحب الخيانة، الغدر، شخصية تغفر وتتوارى عن الأنظار، لا مرة واحدة بل مرتين. لا توجد لحظة واحدة من الشكوى. تمضي فلورا في ممارسة أعمالها الممتعة، تنظف المنزل، وتنظف حظيرة الأبقار، وتنظف تجمعات دموية من فراش أختها، وعندما بدا أن المستقبل أخيرا يفتح لها ذراعيه - تموت إيلي، ويتضرع روبرت من أجل أن تغفر له، وستفعل ذلك نظرا لطبيعتها النبيلة - يجيء دور أودري أتكينسون التي تقود سيارتها إلى فناء المنزل، وتقف حائلا أمام سعادة فلورا ومستقبلها، بصورة غير مفهومة وأكثر عمقا في المرة الثانية أكثر من المرة الأولى. يجب على فلورا أن تتحمل طلاء المنزل، وتركيب المصابيح الكهربية، وجميع الأنشطة الصاخبة في الجانب الآخر من المنزل، برنامج «ميك بليف بولروم» ومسلسل «آموس آند آندي». لا مزيد من القصص الهزلية الاسكتلندية أو المواعظ القديمة. يجب على فلورا أن تودعهما في طريقهما إلى حفل الرقص - حبيبها القديم وتلك المرأة بليدة العواطف، الغبية، وغير الجميلة على الإطلاق في فستان الزفاف الستان الأبيض. تجري السخرية من فلورا. (وبالطبع تركت فلورا المزرعة من أجل إيلي وروبرت، وبالطبع ورث روبرت إيلي، والآن يئول كل شيء إلى أودري أتكينسون.) ينتصر الأشرار. كل شيء كالمعتاد في حياتنا؛ يستتر الأخيار في صبر وتواضع، ويهديهم يقين لا تستطيع الأحداث أن تعكر صفوه.
هذه هي الصورة التي خلت أن أمي ستصيغ قصتها بها. في ظل معاناتها، أصبحت أفكارها روحية أكثر، وكان يوجد في صوتها في بعض الأحيان خفوت، استثارة مهيبة كانت تستثيرني، وتنبهني إلى ما كان يبدو خطرا شخصيا يتهددني. شعرت بوجود سحابة كبيرة من الأفكار الغامضة والمشاعر الروحية تتربص بي، وهي سلطة أم قعيدة لا يمكن مقاومتها، والتي تستطيع أن تمسك بي وتخنقني. كان لا يبدو أن ثمة نهاية لذلك. كان علي أن أظل ناقدة، وساخرة، أجادل وأواجه. أخيرا، توقفت حتى عن ذلك وصرت أعارضها في صمت.
هذه طريقة مهذبة للقول بأنني لم أكن الصدر الحاني لها، وكنت صحبة غير طيبة لها عندما لم يكن لديها ملاذ آخر تلجأ إليه.
كانت لدي أفكاري الخاصة حول قصة فلورا. لم أعتقد أنني أستطيع كتابة رواية، لكنني كنت أرغب في كتابة واحدة. كنت سأتخذ مسارا آخر، كنت أقرأ ما بين سطور قصة أمي وأملأ فراغ ما كانت تتركه. كانت فلورا التي أتصورها سمراء مثلما كانت فلورا التي كانت تحكي عنها أمي بيضاء. ففي استمتاعها بالمواقف السيئة التي تعرضت لها وبقدرتها على الغفران، وتلصصها على مآسي حياة أختها، كنت سأتصورها ساحرة مشيخية، تقرأ من كتابها المسموم. يتطلب الأمر قسوة مماثلة، الوحشية البريئة نسبيا للممرضة منعدمة المشاعر، لدفعها بعيدا، حتى يتحسن وضعها في الظلال. لكنها تم إقصاؤها؛ أقصتها قوة الجنس والحقد العادي بعيدا، وحبستها في القسم الخاص بها من المنزل مع المصابيح التي تضاء بزيت الفحم. انكمشت، تقوقعت، تصلبت عظامها، وازدادت مفاصلها خشونة، وأرى الجمال المجرد للنهاية التي سأبتغيها - يا لها من نهاية! ستصبح قعيدة، مصابة بالتهاب المفاصل، لا تكاد تقدر على الحركة. الآن، أودري أتكينسون تظهر في كامل لياقتها، تطالب بالبيت كله. تريد أن تزيل تلك التقسيمات التي عملها روبرت بمساعدة فلورا عندما تزوج إيلي. ستوفر غرفة لإيلي، وستعتني بها. (لا ترغب أودري أتكينسون في أن يجري النظر إليها باعتبارها وحشا، وربما هي ليست كذلك حقيقة.) لذا، في أحد الأيام يحمل روبرت فلورا - للمرة الأولى والأخيرة بين ذراعيه - إلى الغرفة التي أعدتها زوجته أودري لها، وبمجرد استقرار فلورا في ركنها المضاء والمدفأ جيدا، تتولى أودري أتكينسون مهمة تنظيف الغرف الخالية حديثا، غرف فلورا. تحمل كومة من الكتب القديمة إلى الفناء. يحل الربيع مجددا، وقت تنظيف المنزل، الموسم الذي كانت فلورا نفسها تمارس عمليات التنظيف هذه فيه، والآن يبدو وجه فلورا الشاحب من وراء الستائر الشبكية الجديدة. لقد جرجرت نفسها من ركنها، لكي ترى السماء ذات اللون الأزرق الصافي بسحبها العالية المتزلقة فوق الحقول الندية، وطيور الغراب المتناحرة، والجداول الوافرة، وأفرع الأشجار الآخذة في الاحمرار. ترى الدخان يتصاعد من موقد إحراق القمامة في الفناء؛ حيث تحترق كتبها، تلك الكتب القديمة العفنة، مثلما كانت تسميها أودري. الكلمات والصفحات، ظهر الكتب داكنة اللون النذيرة بالشؤم. الأخيار، الملعونون، الآمال الواهية، العذابات العظيمة، كلها تحترق ويتصاعد الدخان منها. كانت تلك هي النهاية.
بالنسبة إلي، كان الشخص الغامض حقا في القصة، مثلما كانت ترويها أمي، روبرت. فهو لم يقل شيئا البتة؛ يخطب إلى فلورا، يسير إلى جوارها بحذاء النهر عندما تفاجئهم إيلي، يجد أشواك إيلي في فراشه، يصنع جميع أعمال النجارة اللازمة لزواجه هو وإيلي، يستمع أو لا يستمع بينما تقرأ فلورا. أخيرا، يجلس محصورا في أحد مقاعد المدرسة بينما ترقص عروسه المبالغة في حركاتها وملابسها مع جميع الرجال.
هذا كل ما أعرفه عن تصرفاته ومرات ظهوره. رغم ذلك، كان هو الشخص الذي بدأ كل شيء من خلاله، سرا. «فعلها» بإيلي. فعلها بتلك الفتاة المتوحشة النحيلة في وقت كان مخطوبا إلى أختها، وفعلها بها مرارا وتكرارا عندما لم تكن أكثر من مجرد جسد سقيم مسكين، امرأة لا تقوى على حمل طفل، راقدة في الفراش.
لا بد أنه فعلها بأودري أتكينسون أيضا، ولكن في ظل نتائج أقل كارثية.
تلك الكلمات، «فعلها ب ...» - الكلمات التي لم تكن أمي، فضلا عن فلورا، لتتفوه بها - كانت ببساطة مثيرة بالنسبة لي، لم أشعر بأي قدر من النفور أو الامتعاض بأي شكل حيالها، كنت أتجاهل التحذير، لم يكن مصير إيلي حتى ليردعني، ليس حتى عندما فكرت في هذا اللقاء الأول، التهور فيه الناتج عن اليأس، قد الملابس والمقاومة. اعتدت اختلاس النظرات الطويلة إلى الرجال في تلك الأيام. كنت أعجب بمعاصمهم ورقابهم وأي جزء من صدورهم ما كان يسمح زر مفتوح برؤيته، بل آذانهم وأقدامهم في الأحذية. لم أكن أتوقع أي شيء عقلاني من الرجال، فهم تتملكهم فقط شهوتهم. دارت أفكار مشابهة بخلدي حول روبرت.
كان ما جعل فلورا شريرة في قصتي هو ما جعلها مثار إعجاب في قصة أمي؛ ابتعادها عن الجنس. كنت أقاوم كل شيء تحاول أمي أن تلقنني إياه حول هذا الموضوع، كنت أكره حتى انخفاض صوتها، التحذير الغامض التي كانت تتناول من خلاله الموضوع. نشأت أمي في عصر وفي مكان كان الجنس عملية مرعبة بالنسبة إلى النساء. كانت أمي تعرف أنها قد تموت بسببه؛ لذا، كانت تعلي من قدر الاحتشام، والعفة، والفتور الشعوري، الذي قد يقيك. ونشأت أنا مرتعبة من تلك الحماية، الطغيان المهذب الذي بدا كما لو كان ينتشر في جميع مناحي الحياة، لفرض حفلات الشاي وارتداء القفازات البيضاء فرضا وجميع أشكال التفاهات الطنانة. كنت أفضل الكلمات السيئة والتطفل، كنت أداعب نفسي بفكرة طيش وهيمنة الرجل. كان الغريب في الأمر أن أفكار أمي كانت متوافقة مع بعض الأفكار التقدمية في عصرها، وكانت أفكاري تردد صدى الأفكار التي كانت مفضلة في زمني، كان ذلك بالرغم من أننا كنا نظن أنفسنا مستقلتين، وكنا نعيش في مكان متخلف لم تمر عليه هذه التغيرات. كان الأمر كما لو أن الميول التي بدت أكثر تجذرا في عقولنا، الأكثر خصوصية وغرابة، جاءت في صورة بذور تذروها رياح عاتية، تبحث عن أي مكان محتمل تقر فيه، عن أي لفتة ترحيب. •••
Unknown page