وكان سالم أفندي يتأملها كل هنيهة، ويقول في ضميره: «سبحان الخالق» وعند ذلك استأذنت عائدة ، وعادت إلى خدرها. - أتعرف عائدة حقيقة تاريخها يا طاهر أفندي؟ - نعم تعرفه كما نعرفه نحن. - إذن كيف تقول لك: «أبي»؟ - من قبيل المجاز. - إنها لجميلة جدا يا مولاي. - وذكية جدا أيضا. - ما كان أحرى بك أن تعدها زوجة لك لا ابنة إذا كانت نابغة في عقلها وجمالها، بل سامحني يا سيدي فقد سهوت عن أن مولدها دنس. - ليس هذا الذي منعني عن التزوج منها يا سالم، وإنما الفرق العظيم بيننا في العمر هو المانع الوحيد، ولو كان لي ابن لأزوجه إياها؛ لأني لست سخيف العقل إلى حد أن ألصق بها دنس مولدها، فما ذنبها إذا كانت بنت زنا؟ ولهذا آثرت أن أتبناها تبنيا شرعيا بحسب الشريعة النمساوية. - وهل يعتبر هذا التبني هنا يا سيدي؟ - اعتبر أو لم يعتبر لا فرق عندي؛ لأني تابع للحكومة النمساوية.
فضحك سالم أفندي قائلا: إذا أنت أجنبي. - نعم. - أحسدك؛ لأن الأجنبي في هذه البلاد يذبح بسيفه تحت حماية الامتيازات الأجنبية، ألم تتزوج يا مولاي؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني مقيد بعهد - كما تعلم. - عجيب، تعد نفسك مقيدا والعهد قد انحل منذ زمان. - نعم انحل، ولكني لم أزل أعده معقودا لمآرب، دعنا الآن من هذا الحديث، فاسمع الآن أوامري. - كلي آذان يا مولاي. - انقضى عهد الموت والخمول والراحة، وجاء وقت الجهاد والعمل فاستعد؛ لأن عليك مهمات خطيرة. - إني طوع إرادتك يا مولاي، وكل ما ادخرته من الهمة في السنين الماضية أفرغه في السنين التالية، وستراني - إن شاء الله - خادما أمينا كما عهدتني. - بارك الله فيك يا سالم؛ فأنت الصديق الحقيقي، يجب قبل كل شيء أن تتجنب المجيء إلى هنا في بحر النهار؛ لأني لا أود أن يعرف أحد أن لك شبه صلة بي. - لا آتي إلا في الفجر أو بعد منتصف الليل. - حسن جدا، يجب أن يكون عندك تلفون. - منذ الغد. - قبل كل شيء أحتاج إلى جاسوس في منزل عزيز باشا نصري. يجب أن يكون أمينا جدا.
ففكر سالم هنيهة، وقال: ليس بالصعب تدبيره، ولكن بأي صفة تريده أن يكون؟ - الأفضل أن يكون بصفة خادم؛ لأنه في هذه الحالة يقدر أن يتجسس كما يجب، ويتسنى له أن ينقل إلينا أهم أخبار ذلك البيت، وإذا أمكنك أن تهتدي إلى شخص لهذه المهمة يفهم الإفرنسية يكون توفقنا عظيما.
فتأمل سالم لحظة ثم قال: أعرف شابا قبطيا كان سفرجيا في بواخر كوك النيلية، يفهم الإفرنسية ويدعى مرقس، فإذا أمكننا أن نزجه في بيت عزيز باشا بصفة كونه سفرجيا أو طباخا؛ استخدمناه كما نريد. - غرره بالراتب الحسن، أعطه ما يطلب، أيرضى عشرة جنيهات في الشهر علاوة على راتبه الذي يدفعه له عزيز باشا؟ - هذا كثير جدا، يرضى بأربعة جنيهات علاوة على راتبه، بل يرضى بثلاثة، وربما باثنين أو بواحد. - أعطه خمسة، ستة، سبعة، جد عليه؛ لكي يضحي لخدمتنا ما يستطيع. - وكيف الطريق لحمل عزيز باشا على استخدامه؟ - أليس عند عزيز طباخ أو صفرجي؟ - بالطبع عنده. - غر الطباخ الذي يشتغل عنده الآن بماهية حسنة؛ لكي يترك خدمته، وفي الوقت نفسه أرسل ذلك الصفرجي إليه مشفوعا بكتاب توصية به من أحد أصحاب عزيز باشا؛ لكي يستخدمه بدل الخادم الذي استعفي، وأوصه أن يتفق معه على أي حال ويرضى بالراتب الذي يدفعه له، وعده أن تدفع له كل ما يريد من العلاوة حتى العشرة جنيهات. - فكرة حسنة، سأرسل لطباخ عزيز باشا من يزين له الخروج ويغريه بالراتب الحسن عندي أو عند أحد معارفي، وفي الوقت نفسه ألتمس من صديق لي يعرف عزيز باشا معرفة جيدة، وله عليه دالة بأن يزود ذلك الصفرجي بكتاب توصية لعزيز باشا؛ لكي يقبله طباخا عنده. - حسن، ولكن يجب عليك أولا أن تزود ذلك الشاب بالتعليمات اللازمة لوظيفته. - بالطبع. - لا بد أن يعرف أن الجاسوسية مهمته؛ لكي يحسن الخدمة، ولكن لا يجوز أن يعرف لماذا يتجسس؟ ولمن؟ ولا ما الفائدة من تجسسه؟ - إن علاقته ستنحصر بي وحدي. - وحذره أن يدع أحدا من أهل البيت يلاحظ أنه يفهم الإفرنسية؛ لكيلا يتحاشوا التكلم بها أمامه. - كن مطمئنا. - أخاف أن يخوننا. - لا تخف؛ فإني أعرفه يخدم من يجود عليه بكل أمانة. - إذن استملكه بالهبات، صفراء وبيضاء.
وحينئذ تناول طاهر أفندي حقيبة صغيرة، واستخرج منها ورقة مالية، ودفعها إلى سالم أفندي، وقال له انطلق الآن، وغدا يجب أن يكون عندك تلفون، واذكر أن نمرة التلفون عندي 0812 ولا تأت إلى هنا ما لم تخبرني بالتلفون؛ لعل مانعا يمنع من قدومك، وعند ذلك نهض سالم أفندي وصافح مولاه وخرج ممتنا.
الفصل السادس عشر
كان الوقت صباحا لما خرج سالم أفندي من منزل طاهر أفندي، فما ارتفعت الشمس على قامتين أو ثلاث حتى كان حسن أفندي بهجت على باب المنزل يستأذن بالدخول، وفي لحظة كان جالسا مع طاهر أفندي يتحادثان. - كيف رأيت مصر يا طاهر أفندي؟ - لم يمر علي فيها سوى أسبوع قضيته في إعداد رياش هذا المنزل وأثاثه - كما تعلم - فلم أر بعد شيئا من محاسن مصر، ولكن الذي يتراءى لي - من قليل ما رأيت - أنها جميلة. - إنها لجميلة في فصل الشتاء جدا، ولي الأمل الكبير أنك تسر فيها - إن شاء الله. - أما أن أسر فيها فأمر لا مشاحة فيه؛ ما دام لي فيها أصدقاء أعزاء، وبعد ذلك لا فرق عندي سواء كان البلد طيبا أو لم يكن. وكيف شغلك يا حسن أفندي؟ - الفواتح حسنة جدا - والحمد لله - فقد رافعت مرتين في المحكمة المختلطة، وربحت القضيتين وفي الحال كسبت ثقة الناس، والآن عندي عدة قضايا. - أسأل الله توفيقك، إني أتوقع لك مستقبلا حسنا جدا، فأهنئك سلفا. - أشكر لطفك جدا. - أود أن أستشيرك في أمر قضائي. - مر مولاي. - لقد أخبرتك أني أعطيت عزيز باشا - إذ كان في باريس - خمسين ألف جنيه؛ لكي ينفقها في سبيل الاستعداد لمشروعنا ... - نعم. - وأمس سألته ماذا تم في المشروع؟ فأجاب جوابا لا أذكره؛ لأنه لا مفاد له سوى أنه ينوي إنكار المبلغ. - أخبرتني ذلك إذ التقينا في جنيف، وقلت لي إن لك صكا بالمبلغ، ولما أحببت أن أستفهم عن نص الصك غيرت الحديث كأنك لا تريد أن تطلعني على حقيقة ما تم بينك وبينه؛ ولهذا خامرني الريب ولم أعد أجسر أن أباحثك بأمر المشروع إلا حين تفاتحني به أنت، فهل تريد أن تخبرني الآن ما كتمته عني قبلا؟ - لست أقصد أن أكتم عنك شيئا يا عزيزي حسن. - بلى كتمت، وأنا ظننت أنك تريد أن تنبذني من المشروع مغترا بترهات عزيز باشا؛ ولذلك عتبت عليك جدا كيف أنك بتت أمرا معه وسلمته نقودا من غير أن تخبرني، والحق أقول لك إني عاتب عليك، ولو أخبرتني لمنعتك من أن تسلمه نقودا؛ لئلا تصل إلى هذه النتيجة، نتيجة إنكاره. فقل لي: كيف كان الاتفاق بينكما؟ - قال لي عزيز حينئذ: إن صعوبة المشروع هي في أخذ الامتياز من الحكومة أولا، وقد خاطبني بهذا الموضوع بإسهاب، حتى إني اقتنعت أن أدفع له ذلك المبلغ الطائل بموجب صك بيننا. - هل لك أن تريني الصك؟ - لماذا لا؟
وفي الحال استخرجه طاهر أفندي من حقيبته ودفعه إلى حسن أفندي، فقرأه حسن كما يأتي تعريبه:
بتاريخه أدناه استلمت من طاهر أفندي عفت، التاجر في فينا، والتابع للحكومة النمساوية مبلغ 50 ألف جنيه عملة ورق دارجة في باريس ومقبولة في جميع المصاريف؛ لكي أنفقها في مصر في سبيل الاستعدادات اللازمة لنيل الامتياز بإنشاء ترام كهربائي في القاهرة، ونكون أنا وطاهر أفندي المذكور شريكين في هذا المشروع، وقبل نهاية هذه السنة يجب أن أقدم له حسابا عن هذا المبلغ، أو أن أرده، والبيان حرر في 10 أغسطس سنة ...
كاتبه
Unknown page