فتأمل طاهر أفندي كلام حسن هنيهة ثم رفع فيه نظره وقال: أرجح جدا أن مشروعك الأخير ينجح إذا تألفت له شركة قوية؛ لأني اختبرت هذا المشروع عرضا في بعض مدن أوروبا ولاحظت أنه ناجح وافر الأرباح. - على أني لا أكتفي في تحقق المشروع بمجرد الفروض والتخمينات، بل صممت على أن أجول في بعض مدن أوروبا وأطلع على إحصاءات كل شركة من هذا النوع - إن أمكن. - تريد أن تدرس المشروع درسا فعليا. - نعم. - هذا ما لا بد منه ويدلني على أنك تأخذ الأمور بالاختبار الفعلي الشخصي، ولهذا أطمئن إلى عملك ورأيك وسعيك، وعليه أعدك وعدا صادقا بأني أمد يدي مع يدك إلى العمل في هذا المشروع، وإذا كان يقتضي لك نقفة كبيرة لدرسه فلك مني كلها أو ما تشاء منها. - لا أخفي عليك إني لست ذا مال ولا يد لي في هذا المشروع إلا يد السعي والعمل بهمة ونشاط، والاهتمام في دعوة الناس إلى الاشتراك في الشركة. - حسبنا ذلك ولك مني أن أقدم جانبا كبيرا من المال لتأسيس الشركة، فادرس المشروع جيدا، ومتى انتهيت من دراسته نتباحث مليا فيه. - إني كبير الأمل بالنجاح أيها الصديق، وقد فاوضت قبلك صديقي يوسف بك رأفت فوافقني عليه، ووعد أن يشترك معي به، وها أننا قد صرنا الآن ثلاثة. - وهل يوسف بك غني؟ - نعم، تبلغ ثروته نحو أربعين ألف جنيه. - فقط؟ - ألا تكفي لكسب الثقة في مشروع كهذا؟
فسكت طاهر أفندي عن هذا الموضوع، وسأل: وخليل بك أليس غنيا؟ - لا تربو ثروته وثروة أخيه على ستين ألف جنيه، ولكن زوجة أخي خليل بك غنية جدا تبلغ ثروتها نحو مئتي ألف جنيه أو أكثر - على ما أظن. - لا تؤاخذني على هذا السؤال يا حسن أفندي، فإنه يتراءى لك فضولا مني، ولكن له سببا أسره إليك؛ لأني أتوسم فيك كتم السر. - ثقتك في محلها يا طاهر أفندي، فقل - إذا شئت. - رأيت خليل بك يتردد على محلات القمار الكبيرة، وقد التقيت به في بعضها غير مرة، إذ أكون برفقة بعض أصحابي الأخصاء الذين يختلفون أحيانا إلى تلك المحلات بغية التسلية، ومع أن الواحد منهم يملك ثروة تساوي مائة ضعف من ثروة خليل بك فقد وضعوا قانونا لأنفسهم من مقتضاه، أن لا تتجاوز المجازفة الواحدة 10 جنيهات ولا الخسارة في لعبة واحدة ستة جنيهات، ولكني رأيت خليل أول أمس ينافسهم في المجازفة حتى خسر نحو ألف جنيه واقترض مني ليلتئذ نصفها، وأمس أتى إلي والتمس مني أن أقرضه 8 آلاف جنيه فوعدته، والتمست منه أن يشهدك ويوسف بك على الصك ؛ لأني أعرفكما وتعرفانه. - ليتك يا طاهر أفندي لا تقرضه؛ فتصنع معه رحمة من جهة ولا تجازف بنقودك من جهة أخرى؛ لأنه سيقامر بهذه الآلاف، والأرجح أنه يخسرها. - لم يسعني إلا أن أعده يا حسن أفندي، ولم يعد في طوقي أن أنكث بوعدي معه، ولو تأكدت أني طارح هذه الآلاف في البحر، وهبني لا أستردها فلا تهمني قط؛ لأني - والحمد لله - في سعة.
فتأمل حسن هذا الكلام، وقال في نفسه: إذن كم تبلغ ثروة هذا الرجل؟
الفصل التاسع
بينما كان حسن أفندي بهجت يفاوض طاهر أفندي عفت في قاعة فندق كونتيننتال كان خليل بك مجدي في غرفة يوسف بك رأفت يتفاوضان المفاوضة التالية:
قال: لو تعلم يا عزيزي يوسف أي حد بلغت المودة بيني وبين طاهر أفندي، فقد أصبحنا صديقين حميمين، وقد صادفت من كرم أخلاق هذا الرجل العجب العجاب. - لا ريب عندي أنه رجل نبيل جدا والظاهر لي أنه ذو ثروة كبيرة جدا. - جدا جدا - على ما أرى - وقد اجتمعت به في هذا الأسبوع في محل من محلات القمار فاحتجت إلى خمسمائة جنيه فقدمها لي في الحال، كما يقدم أحدنا للآخر الجنيه الواحد. - إذن هو مقامر. - لا أظنه من المولعين بالقمار؛ لأنه يأتي مع قوم من أهل الثراء في باريس، يختلفون أحيانا إلى محلات القمار؛ بغية التسلية فلا يلعبون بمبالغ طائلة، أما هو فلم يلعب إلا نادرا، بل كان أكثر الأوقات متفرجا. - ولكن لا بد أن يصبح مقامرا مثلك - بعد حين - إذا طال تردده على هذه المحلات. - لا أظن يا يوسف بك؛ لأنه يظهر أن الزمان تقلب كثيرا على هذا الرجل، حتى لم تعد تؤثر عليه هذه العادات، ومع كل فهو وشأنه، على أنه قد أظهر لي مودة فائقة وذكر لي مرارا أنه يود أن يخدمني أي خدمة أبتغيها، ولا أخفي عليك أني مديون كثيرا وكنت أظن أني أربح من القمار ما يفي ديوني كما ربحت في الأشهر السابقة فخاب فألي.
فقاطعه يوسف بك قائلا: ليتك خسرت أولا؛ فربما كانت الخسارة تردعك عن اللعب، فإلى متى يا خليل بك أنت مفتون بهذه العادة المدمرة؟ - وحقك، إني شاعر بغلطي وجهالتي وقد حصل ما حصل، وطاهر بك وعدني بأن يقرضني ثمانية آلاف جنيه على أنه طلب أن توقع أنت وحسن على الصك بشهادتكما. - ثمانية آلاف جنيه يا خليل؟! - أتعني: أنه مبلغ كبير علي اقتراضه أم على طاهر أفندي إقراضه؟ - أعني كلا الأمرين. - أما أنا فإني مدين هنا بكثير يا يوسف، وأما هو فالثمانية آلاف جنيه ليست شيئا يذكر عنده، ولما طلبتها منه وعد بها في الحال - كما لو طلبت منك جنيها - ولما ذكرت له مسألة الفائدة استاء مني وقال لي: ليس بيننا مثل هذه الطفائف وإنما أرجو منك أن تشهد فيه صديقيك، ولكن شهادة حسن على الصك أود أن أتجنبها؛ لأنه يصعب علي جدا أن يعرف أني مدين بمبلغ كبير كهذا، ولو لم يكن طاهر أفندي نفسه هو الذي طلب شهادتكما لكنت أبحث عن شاهد آخر غير حسن، فما العمل يا يوسف؟ - لا أظن إشهاد حسن معرة يا خليل حتى تتجنبه، فحسن أنبل مما تظن، وإذا أوصيناه أن يكتم أمر الصك يستحيل أن يبوح به، فلا بأس أن تشهده إذا كان مقرضك يريد ذلك.
فتقمقم خليل وتبرم، وقال: لا أحب أن يكون هذا الغلام مطلعا على أحوالي الداخلية، ولكن لا بأس. دعني أكتب هذا الصك هنا.
وفي الحال جلس إلى المكتب وكتب الصك، وما كاد ينتهي منه حتى دخل حسن باسم الوجه مشرق المحيا، فقال له يوسف: أراك يا عزيزي حسن مشرق الطلعة فعساك مشرق القلب أيضا! - كما تظن؛ فإني كنت أقضي مهمة، فنجحت - والحمد لله.
فقال له خليل بك: أظنك ظفرت بقلب غادة. - بل شيء أفضل من قلب الغادة لي الآن، وأنت تعلم أن الأمور تتمنى بحسب الحاجة إليها، فإذا كنت يوما في ظماء شديد كانت كأس الماء أفضل عندك من الغادة. - صدقت، والآن أنا في حاجة إلى ثمانية آلاف جنيه لمشروع مهم ومفيد جدا، وقد سألتها صديقنا طاهر أفندي فوعدني بها بكل بشاشة، وها إني قد كتبت الصك فألتمس منك أن تشهد علي أني قبضت المبلغ الذي فيه.
Unknown page