وكان من عادته رحمه الله أن ينتقل في فصل الصيف إلى مسجد وصيف، وحينما كان الزائر يسير في داره هناك كان يجد دلائل الحب العائلي ماثلة أمامه؛ ففي هذه الحجرة مثلا صورة كبيرة للمغفور له مصطفى فهمي باشا، وعلى الخوان الذي بجانبها صورة أخرى له وللمغفور لها حرمه، وفي تلك الحجرة صورة بل مجموعة صور فوتوغرافية لأم المصريين صفية هانم زغلول، تمثلها في كل دور من أدوار سني حياتها، فلا يسع المجال في تلك الدار إلا أن يشعر بأن ربها يحمل بين جنبيه قلبا طبع على الحنو والشفقة والحب العائلي كما طبع على حب وطنه وشعبه. وكانت أم المصريين تبذل جهدها لإرضائه وإراحته منذ اليوم الأول لزواجهما، ومما روته في هذا الصدد بعد وفاة فقيدها العظيم بأربعة أيام لمن كان يحيط بها من المعزيات: «كان سعد يكره تبرج النساء، وكان يمقت كل سيدة متبرجة، وكان إذا رأى عندي سيدتين إحداهما متبرجة والأخرى غير متبرجة التفت إلى الثانية وقال لها: «لماذا أكثرت اليوم من البودرة والأحمر على وجهك؟» فتخجل السيدة الأولى وتقول له: «بل أنا يا دولة الباشا اللي مكثرة من البودرة والأحمر»، ولا تعود إلى التبرج عندما تزورنا مرة أخرى.»
قالت صفية هانم: «وكنت ألوم سعدا على هذه الصراحة وأؤكد له أنه بكلامه هذا يؤلم المتبرجات، فكان يجاوبني: «ولماذا لا تريدين أن أكون صريحا فيما أعتقده حقا؟»»
قالت صفية هانم: «وكان سعد يكره «البودرة» طول حياته، ومما أذكره أنني لم أضع على وجهي ذرة واحدة من «البودرة» منذ يوم زفافنا.»
أما شجاعة أم المصريين فتجلت بأجلى مظاهرها في أثناء الحركة الوطنية، فإنه لما اعتقل ولاة الأمور البريطانيون دولة الرئيس الجليل وأرسلوه إلى السويس لإبعاده إلى عدن، ومنها إلى جزائر سيشل، طلبت حرمه المصون من السلطة البريطانية أن تسمح لها بمرافقة زوجها في نفيه لتسهر على راحته والعناية به؛ رأفة بشيخوخته وشفقة على صحته، فأبت السلطة يومئذ أن تجيبها إلى طلبها، وأصرت على أن يرحل سعد من دونها.
ولسنا في حاجة إلى تذكير القراء بما أبدته صفية هانم بعد ترحيل الرئيس من الشجاعة والوطنية، فكانت على اتصال دائم بأعضاء الوفد المصري تشترك معهم في مداولاتهم، وتحل محل قرينها في اجتماعاتهم، وتستقبل الوفود وتخطب فيها حاثة الأهلين على التمسك بمطالبهم والمضي في جهادهم مستنيرين بمبادئ «وفدهم»، مستمدين روح البذل والتضحية من مسلك زعمائه ورئيسهم، فكان لخطبها ومساعيها وقع عظيم في رجال الوفد وفي رجال الأمة وسيداتها.
والظاهر أن ولاة الأمور البريطانيين عادوا فرأوا أن التأثير الذي تحدثه صفية هانم في نفوس الأمة لا يقل عن التأثير الذي يحدثه سعد باشا نفسه، فاستقر قرارهم على أن يأذنوا لها في اللحاق بقرينها، وبينما كانت عصمتها جالسة ذات يوم في بيت الأمة مع جماعة من أقربائها، دنا منها أحدهم وأخبرها أن دار المندوب السامي البريطاني تريد مخاطبتها بالتلفون، فنهضت وسارت إلى حيث كانت آلة التلفون، وسألت مخاطبها عما يريده منها، فأجابها بأن اللورد اللنبي يبلغها أن لا مانع عنده من أن تلحق بسعد باشا، وأن في وسعها أن تسافر متى شاءت، فقالت له على الفور: «لقد استودعت زوجي يدي الله وسأبقى أنا هنا أؤدي الواجب علي نحو وطني إلى أن يعود.» (4) سعد في مسجد وصيف
2
لما دخلنا على الفقيد العظيم في حجرة الاستقبال ألفيناه جالسا مع الدكتور حامد محمود نائب طوخ، فاستقبلنا رحمه الله هاشا باشا وهو يقول: «أهلا وسهلا بكم»، فلثمنا يده الكريمة وهو يحاول أن يستردها قائلا: «مرسي! مرسي! تفضلوا اقعدوا»، فجلس فريق منا على مقعد وجلس الفريق الآخر على الكراسي بعيدا عن المكان الذي كان جالسا فيه فقال دولته: «لأ ما تبعدوش، قرب يا فلان، وقرب يا فلان.» فنقلنا كراسينا إلى جواره وأخذ حفظه الله يسأل كلا منا عن صحته وأحواله شأن الوالد الحنون مع أولاده، وبينما نحن كذلك دخل علينا بهي الدين بركات بك نجل معالي فتح الله بركات باشا، فلثم يد الرئيس فقبله دولته في وجهه وسأله لماذا لم يخاطبه بالتلفون عن عزمه إلى المجيء إليه، وكان سعد باشا يخاطب نجل ابن شقيقته ودلائل الحب العائلي بادية على محياه وهي دلائل تبدو لك حيثما تسير في دار الرئيس.
ففي هذه الحجرة مثلا صورة كبيرة للمغفور له مصطفى فهمي باشا وعلي الخوان، التي بجانبها صورة أخرى له وللمغفور لها حرمه، وفي تلك الحجرة صورة بل مجموعة صور فوتوغرافية لأم المصريين صفية هانم زغلول وهي تمثلها في كل دور من أدوار سني حياتها، فلا يسع المتجول في تلك الدار المباركة إلا أن يشعر بأن ربها يحمل بين جنبيه قلبا طبع على الحنو والشفقة والحب العائلي كما طبع على حب الوطن، ذلك الحب العظيم الذي دفعه إلى اقتحام المخاطر غير مرة في سبيل بلاده التي وقف صحته وعلمه وجهوده على خدمتها وخدمة أبنائها.
ويشعر زائر دار سعد باشا في مسجد وصيف بأنه في مصيف أعد للراحة وترويح النفس وتنزيه الخاطر، قالوا إن جدرانه وأثاثه وبراويز الصور التي حليت به غرفه كلها من الألوان التي يرتاح إليها النظر، والدار مؤلفة من طبقتين على طراز «الفيلات» الأوروبية التي نشاهدها في المعادي والزمالك ورمل الإسكندرية ويجلس سعد باشا في الغرفة التي يستقبل فيها ضيوفه إلى جانب طاولة صغيرة وضع عليها آلة صغيرة للتلفون حتى لا يضطر إلى الانتقال من مكان إلى آخر عندما يريد أن يتكلم به وقد جهز الجدار في المكان عينه أيضا بزر كهربائي يضغط عليه الرئيس عندما يبغي أن يدعو إليه أحدا من خدمه. •••
Unknown page