Sāʿāt bayn al-kutub
ساعات بين الكتب
Genres
فصحيح إذن أن شعر المتنبي إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياته، ولكن صحيح كذلك أنه إذا صور لنا هذه اللحظات فقد صور لنا كل ما نبغيه، وأوفى ما يبلغه التصوير.
ويقول الدكتور طه في صدر الكتاب: «لا أريد أن أدرس المتنبي، إذن فالذين يقرءون هذه الفصول لا ينبغي أن يقرءوها على أنها علم ولا على أنها نقد؛ ولا ينبغي أن ينتظروا منها ما ينتظرون من كتب العلم والنقد، وإنما هي خواطر مرسلة، تثيرها في نفسي قراءة المتنبي في قرية من قرى الألب في فرنسا قراءة في غير نظام ولا مواظبة، وعلى غير نسق منسجم. إنما هي قراءة متقطعة متفرقة.»
والذي أعتقده أن الدكتور لو تعمد «العلم والنقد» واصطحب المطولات والحواشي والتعليقات لما أضاف في دراسة المتنبي شيئا هو خير من هذه الخواطر المتفرقة والفروض المحتملة، وأرى أنه قد رجع إلى بعض الكتب المفصلة بعد أن شرع في كتابه على نية غير نية الدراسة العلمية والنقد الممحص الدقيق، ولكنه أحسن بفروضه أكثر من إحسانه بمنقولاته ومروياته، وألمع في هذه الفروض إلى آراء شتى خليقة بالتأمل والمتابعة إلى أقصى وجوهها، ولا سيما كلامه في صلة المتنبي بالقرامطة، وحقيقة الدعوة الدينية والاجتماعية التي كان يدعو إليها، فهذه وأمثالها فروض لم يرسلها الدكتور على أنها وقائع ولا على أنها ترجيحات ولم يعطها من القيمة في معرض الدرس أكثر مما تعطاه الخواطر المحتملة، إلا أنها مع هذا خواطر هادية وليست بالخواطر المضللة، أو هي ظنون في الطريق المؤدي إلى الغاية، وليست ظنونا في الطريق المنقطع عن تلك الغاية، وهذه هي الإضافة المشكورة إلى ذخيرة الفهم، والأدب، والتفكير، وهي بهذه المثابة أنفس من إحصاء المعلومات، واستعراض الآراء من هنا وهناك. •••
ويطول بي القول إن أنا سردت في هذا المقال ما نتفق فيه بعض الاتفاق أو كل الاتفاق، فالرأي إذن أن ألم بمواضع الخلاف، وهي غير قليلة في الكتاب، وأكتفي بالإشارة إلى نماذج منها معظمها في الحكم على صناعة المتنبي، أو في الحكم على ذوقه وطبعه، فهي من ثم بمعزل عن جانب الفرض والتاريخ.
روى الدكتور هذين البيتين من شعر المتنبي في صباه:
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا
كان تسليمه علي وداعا
ثم قال: «أعجب الفتى بهذا المعنى، فأراد أن ينظمه وأن يصل إليه، فتكلف لذلك بيتا ونصف بيت، وأنت ترى مظهر التكلف في قوله: «بأبي من وددته فافترقنا»، فكلمة وددته هنا نابية قلقة مكرهة على الاستقرار في مكانها الذي هي فيه. أراد الصبي أن يقول أحببته فلم يستقم له الوزن، فالتمس كلمة تؤدي له هذا المعنى، وتلائم هذا الوزن فلم يجد إلا وددته هذه.»
Unknown page