Sāʿāt bayn al-kutub
ساعات بين الكتب
Genres
ولا ضرر من «ربما» على كل حال، ولكنك تستطيع أن تجزم جزما لا «ربما» فيه أن الذين يفعلون ذلك لن يكونوا إلا من أصحاب الأطوار الغريبة والأمزجة التي لا يقاس عليها بين سواد الناس، فهم من قبيل أولئك الذين يجربون النافع والضار في أنفسهم؛ لأنهم ينشدون الاستطلاع بأي ثمن من مال أو صحة أو حياة، وليس هؤلاء بين خلق الله بالعدد الكثير.
لكن هب أن صاحب الملايين أعلن الناس أنه ألف لهم كتابا في الفلسفة، سواء أكان في الفلسفة عامة أم في فلسفته هو خاصة، وأنه عرضه للبيع ونزل به مع المؤلفين في ميدان التأليف والنشر، فكم ألفا يبيع من هذا الكتاب وكم قارئا يقبل على مطالعته من طلاب الفلسفة وممن لا يطلبونها ولا يطيقون اسمها بالسماع؟
كم ألفا يقرءون ذلك الكتاب؟
لا أسألك الدقة في العدد ولا أنوي أن أجعل لك جائزة على إصابة العدد الصحيح، فلك أن تقول عشرون ألفا ولك أن تقول مائة ألف، ولكنك لن تنزل بالعدد عن هذا المقدار فيما أظن، ولا سيما إذا علمت أن المؤلف من الأمريكيين وأن مصنفه يكتب باللغة الإنجليزية.
فما سر هذا الاختلاف في نظر الناس بين معالجة الفلسفة ومعالجة المرضى وطهو الطعام؟ هل الفلسفة في نظرهم أسهل من الطب وأقرب منالا من الطبخ أو من كل صناعة يستعد لها بالفطرة والتدريب؟ وهل كل صاحب ثروة مستطيع أن يكون فيلسوفا لأنه ملك الملايين، ولكنه غير مستطيع أن يطبخ صنفا من الخضر ولو كان قد ملك تلك الملايين؟
لا! لا إخال أحدا من الناس يذهب إلى ذلك حين يضع يده في جيبه ليشتري الكتاب ويزيد بجملة أثمانه ثروة الغني الكبير، ولا هو يعنيه هل الكاتب فيلسوف أو غير فيلسوف؟ وهل هو ممن يحسنون الكتابة أو ممن لا يحسنون؟ ولكنه يشتري الكتاب راضيا ويقرؤه وهو لا يبالي أخرج منه بفلسفة أم بهراء لا طائل وراءه، بل لعله لو كان على يقين أنه سيظفر منه بالفلسفة الصحيحة لما جشم نفسه عناء الاطلاع عليه، فهو يقرؤه لأن المال ينقل أصحابه إلى عالم من السحر والفتنة يخيل إليه أنه مختلف عن هذا العالم الذي يعيش فيه، وهو يريد أن يستطلع ذلك العالم بكل ما فيه من كمال ونقص، ومن فهم وسخف، ومن حقيقة وباطل، بل يقرؤه وهو راض غير مستضيع لدراهمه لو خرج منه على أن مؤلفه أسخف السخفاء وأبطل المبطلين ، فإن تسخيف رجل عنده مائة مليون شيء يستحق في ذاته بضعة دراهم تدفع في ثمن كتاب! وربما كان تسخيفه أولى بالثمن من الإعجاب بفلسفته؛ لأن الدنيا لا تحتاج من صاحب الملايين أن يكون فيلسوفا ولا من الفيلسوف أن يكون صاحب ملايين.
وأحسب أن الناس على حق في التفريق بين علاج المرضى وطهو الطعام وكتابة الفلسفة على هذا الاعتبار، فالذي يبخل ببضعة دراهم على صحفة يطبخها «فورد» أو «روكفلر» ويشترط عليه أن يأكلها كما يأكل الطعام الشهي السائغ، لا نحسبه مخطئا في بخله بدراهمه القليلة، وكذلك الذي يبخل بمثل تلك الدراهم أو بضعفها أو ضعفيها على الطبيب فورد والطبيب روكفلر لا يكون من المخطئين في هذا التقتير، ولكن الذي يأبى شراء كتاب فلسفي يكتبه أحد هذين مخطئ ولا ريب في حق الفلسفة وفي حق الاستطلاع؛ لأنه يستفيد من الكتاب على الوجهين ويعرف منه ما يصح أن يعرف، سواء أكان علما أم جهلا، وكلاما يستحق الاطلاع أم كلاما لا يستحق الاطلاع، وماذا عليه أن يتفرج ببضعة دراهم على السخافة التي تشهرها في أرجاء الدنيا مائة مليون من الجنيهات؟
لا أقول ذلك تعزية لنفسي على شراء الكتاب، فقد يحسن أن أسرع فأنهي إلى القارئ أنني حمدت شراءه ووجدته أطيب وأصدق من بعض المؤلفات التي لا عمل لأصحابها غير التأليف، ولكنني أقوله لأنه هو الباعث لي على تصفح الكتاب حين لمحت عنوانه، ولو أنني قرأت في موضعه «فلسفة متسول» لا «فلسفة فورد في الصناعة» لشريته للسبب عينه، ووثقت أنني لا أضع الثمن في غير موضعه؛ لأن ما فيه لا محالة مادة قراءة ولو لم يكن كاتبه بالكاتب المجيد.
أما الكتاب فهو كما قد عرف القارئ كتاب «فلسفتي في الصناعة» لمؤلفه «هنري فورد» صاحب السيارات المشهورة، وأما موضوعه فظاهر، ولكني لا أحسب القارئ يتخيل أن الفيلسوف هنري فورد يمتد بأفق الصناعة إلى ذلك الشأو الذي مدها إليه، وأي شأو؟ إنه يريد أن يطبق الصناعة على حياة بني الإنسان!
قال: «إن مسألة الطعام من أخطر المسائل التي علينا أن نتوفر على علاجها، وكلما انقضى يوم ازددت إيمانا بأننا مكلفون أن نزيد الوقت الذي ننفقه في درس مسألة الطعام وكيف يؤكل، فأكثرنا يأكلون فوق ما يحتاجون إليه وكلنا يأكل غير الصنف الذي يصلح له في غير الوقت الذي يناسبه ثم ينتهي به الأمر إلى الألم والشكوى، نعم إن متوسط السن التي يعمرها الناس قد تضاعف في نصف القرن الأخير ولكني على يقين من أننا مهتدون يوما إلى وسيلة نرم بها جسم الإنسان حتى يطول أجله من الاستمتاع بالصحة والنشاط والذكاء. خذ مثلا «أديسون» فإنه الآن لعلى مثل ما كان عليه من يقظة الذهن في كل أوقات حياته، وكل ما لدينا من الأسباب خليق أن يؤكد لنا أننا سنقدر على تجديد أجسامنا على النمط الذي نجدد به عوار المراجل البخارية، فقبل زمن غير بعيد كنا نطرح مراجلنا جانبا لأن الصدأ يوهي سطوحها في بعض المواضع، فما هو إلا يسير من الدرس في هذه المسألة حتى اهتدينا إلى وسيلة لرمها ترد القديم منها كالجديد وتعيده إلى العمل أقوى مما كان أول مرة، والذي نريد أن نصل إليه هو أننا إذا وفينا التفكير حقه في هذه الوجهة فلا ندري لماذا لا نقدر على مثل ذلك في رم جسم الإنسان، فلا قانون يمنعه ولا حائل يحول دونه، وليست المسألة الكبرى هنا إلا أن تتوجه نية الناس إلى هذه الوجهة وأن تصحح الرغبة في الاستفادة من كل ما يؤدي إلى ذلك بعد علمه.»
Unknown page