249

Sāʿāt bayn al-kutub

ساعات بين الكتب

Genres

أمامنا شعوب تنافست، فتعادت، فتقاتلت، فاجتهدت في التعارف وهو من أسباب التفاهم، فالتآلف والتعاطف على علم بما في النفوس من قوى الخير والشر، وجوانب البأس واللين.

ثم أمامنا المثل العليا التي ارتقى إليها أناس من نخبة بني الإنسان في عظمة الروح، وشمول العاطفة والنفاذ إلى أسرار النفوس، وما فيها من حق وباطل، وعلم وجهل، وفضائل دائمة، وعوارض زائلة؛ وهي - أي هذه المثل العليا - تقول لنا: إن المحبة هي المعرفة الحقيقية وهي النور الذي يكشف لنا دخائل الحياة، ويرينا ما في القبح الظاهر من جمال باطن وما في الأوزار من أعذار، وما في الأغراض من تحيز وضلال يحيد بنا عن صدق المعرفة، وسداد الحكم على أعمال الناس، وحوادث الأيام.

فأي هذين إذن هو الرأي الصحيح، وأيهما في الواقع هو سبيل العلم القويم؟

على أننا يجب أن نسأل قبل ذلك: هل بين القولين تناقض؟ وهل هما مفترقان لا يتفقان في الأساس ولا في النهاية؟ وجواب ذلك يغنينا عن الحيرة والإمعان في الموازنة بين الرأيين، لأنهما في الحقيقة غير متناقضين ولا مفترقين.

فإذا سألنا: ما هي أسباب المحبة؟ فقد نعلم أن من أسبابها الخلاف فالتفاهم فالتآلف، وعندئذ تلتقي الآراء على أن المحبة والمعرفة يتلقيان في النهاية، وأن طريق المحبة أو طريق المعرفة هو الذي يتشعب ويتفرق، ويبدو لنا كالتناقض في ظاهره، وهو في باطنه من التناقض براء.

إنك بالعداوة تسبر قوة غيرك الجائرة التي تدور على الأثرة وحصر الخير في النفس دون المنافسين والمزاحمين.

وإنك بالمحبة تسبر قوة غيرك العاطفة التي تتسع وتعلو على قيود الأثرة والحصر، وتنظر إلى الأشياء من غير الناحية التي تدور عليها المنافسات والمخاصمات، وكلا المسبارين لازم ضروري لعرفان الإنسان بالإنسان، وحكم الحي على طبيعة الحياة، فإذا صرفنا النظر عن الإنسان ونظرنا إلى الطبيعة رأينا فيها مصداق ذلك، وعلمنا أن معرفتنا بها مزيج من الحذر والحب والحيطة والاعتماد، فلولا الحذر لما نشأت جميع العلوم والصناعات التي مدارها على دفع الأخطار، وتذليل الصعوبات، ولولا الحب لما حسنت الدنيا في أعيننا ولا تعلقنا منها بأواصر الثقة والرجاء، ولا ننس أن المحبة هي المثل الأعلى، وأن المثل الأعلى هو نهاية الطريق أو هو على الأقل لا يكون في البداية التي يبلغها كل من شاء بغير محاولة منه ولا عناء، ثم لا ننس أن المحبة نعمة كبرى لمن يعطيها مستحقا لإعطائها، ولمن يأخذها مستحقا لأخذها، وإن النعم الكبرى لا تبذل لأبناء هذه الدنيا إلا بثمن كبير.

وبعد ...

فليتعارف الأفراد ولتتعارف الشعوب بكل وسيلة لديها للمعرفة، ومن كل فج ينتهي بها إلى تلك الغاية، فإنها إذا انتهت إلى بغيتها من المعرفة الكاملة، فهناك تعلم مواضع المحبة أين ينبغي أن تكون، وأين ينبغي ألا تكون.

الترجمة وتعارف الشعوب (1)1

Unknown page