227

Sāʿāt bayn al-kutub

ساعات بين الكتب

Genres

لا جرم ليس من المألوف أن يبلغ التطفيف بالهدية هذا المبلغ! وصدق مرة أخرى قول المتنبي:

أبلغ ما يطلب النجاح به الطب

ع وعند التعمق الزلل

إذا قرئت القواميس على هذه الطريقة فقد تجد فيها أحيانا كلاما تقرؤه غير الحروف التي لا تدل على شيء، وغير الأفعال والأسماء التي تدل على شيء والزمن جزء منه، أو تدل على شيء وليس له من الزمن جزء ولا جزيء!

شيء عن أخلاق ابن الرومي1

من فصل عن «مزاجه وأخلاقه» في الكتاب الذي نضعه عنه ... آمن شيء في الحكم عن هذه الأمزجة وأشباهها ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وأن لا تزال مترقبا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة؛ فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول. وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتا ما وهو مستخف بالعظائم لا يبالي منها ما كان أو ما يكون.

كيف هذا؟ أفي تركيبهم تناقض؟ لك أن تقول نعم، فتصيب بعض الإصابة، ولك أن توسع النظر فتصيب الإصابة كلها، ويحق لك أن تقول: كلا! إن التناقض هنا هو في الظاهر دائما وليس في الحقيقة، أو هو في تقلبات الإحساس وليس في أسبابها الدخيلة، ومن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت منه حري ألا يبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه وظلت بعيدة منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه ويلامس أعصابه، لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه وأعفاه عن شبحه، فهو الدهر بين تبرم وفزع من توافه الأشياء وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.

وكثير من أصحاب هذه الأمزجة من يحسنون السخر والتهكم وينظرون إلى الحياة بعين العارف بما فيها من الكبائر والصغائر، والتناقض والاتفاق؛ لأن هذه الملكة - ملكة السخر - لا تحتاج بعد دقة الملاحظة إلى غير النقائض والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه وقد يستغني عن مراقبتها في غيره، وقد كان ابن الرومي ساخرا ولا جرم. كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله! ولا جرم يسخر وهو مهيأ، فيما عدا ذلك للسخر، بتعدد أصوله وتوزع أهوائه وعصبياته، فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك ولا يسعفه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها الناس موضع الجد والقداسة.

ههنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب، والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة، كالذي يختصم إليه بنوه، ويدعي كلهم من فضله وعيوب إخوته وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه ووشائج حبه وحنانه.

فقد اجتمع لابن الرومي من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره. اجتمعت له دقة الإحساس والملاحظة، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه، وسعة النظر إلى الفوارق، وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث حتى بصحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثيل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له بل صورا شتى لا يعوزها شيء من العناية وأمانة الصناعة!

Unknown page