222

Sāʿāt bayn al-kutub

ساعات بين الكتب

Genres

ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون في الشرق؛ لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلا في مدى سبعة وعشرين يوما من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات ، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور أخرى: منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير إذن من زوجته وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي، ثم من شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان.

ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين، فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون، ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين - كرشمر وكيسلنج وفك - أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسا واحدا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب، فيما يقول هيرودوت، والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سام وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه سام آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.

ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب، ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام، فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس، وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني، وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.

يقول هرتز: «لا ترى أحدا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر، أما في بني الإنسان فالفرق اليسير - بالغا ما بلغ من التفاهة - كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة، وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر، فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»

كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوربيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين، والكتاب بعد حقيق بالدرس والتأمل لما احتواه من العلم الغزير والبحث الكثير ولو لم يكن فيه ذلك الإنصاف.

قراءة القواميس1

المعروف أن المعاجم - أو القواميس - لا تقرأ إلا كلمة كلمة، وأنها ككل شيء ضخم عظيم الشأن لا يطال في مخاطبتها إلا بمقدار كلمة ورد غطائها كما يقولون! ثم ندعها وشأنها حتى تعيدنا إليها كلمة أخرى وقلما يزاد عليها، فهل هذا الذي نعنيه بالقراءة؟ أو للقواميس قراءة أخرى كتلك الكتب التي خلقها الله تقرأ من الجلدة إلى الجلدة، ومن السطر الأول إلى السطر الأخير؟

نعم للقواميس قراءة كهذه بل قراءتان، وما من تلميذ إلا يذكر في صباه كيف كان ينظر إلى هذه الكتب الضخام نظرة الإكبار والإعظام، وكيف كان يصور لنفسه أولئك العلماء الأجلاء الذين استبحروا في العلم، واستوعبوا كل ما في هذه الكتب من كلام أعجمي أو عربي كأنه الأعجمي في الغرابة وصعوبة الألفاظ! وهو لا يذهب بعيدا في التصور والتقدير، فأستاذه هذا - أستاذه الذي يراه أمام عينيه - يحفظ القاموس ولا يخرم منه كلمة! أليس يسأله عن كل ما في كتاب المطالعة من كلمات غريبة فيجيب على البديهة؟ فإذا ساء حظ ذلك الأستاذ يوما فاحتاج أمامه إلى القاموس يبحث فيه عن كلمة فالناظر إذن هو الذي يحفظ القاموس وحده دون جميع المعلمين في مدرسته! وإذا دار الفلك دورة النحس على هذا الناظر أيضا في بعض زياراته القليلة للفرق الصغيرة أو الكبيرة، فالمفتش إذن هو المختص بحفظ القواميس والقادر وحده على أن يحمل في عقله هذا الكتاب الذي تعيا بحمله اليدان! ومتي يجيء اليوم الذي يرتقي هو فيه إلى هذه المرتبة العالية من الحفظ والتحصيل؟ ألا يجرب قليلا؟ ألا يشرع من الآن؟

ويتفق أن يشرع في الصفحة الأولى يكررها كلمة بعد كلمة وحرفا حرفا من تلك المعاني التي لم يضعها مؤلف القاموس عبثا هناك حتى يستغني القارئ الصغير ببعضها عن البعض الآخر! بل يتفق أن يحفظ صفحتين أو ثلاثا أو أربعا وخمسا ثم لا بد أن يدركه السأم ويستكبر هذا الخطب الجسيم ويعزي نفسه بصغر السن وبعد اليوم الذي يحق له فيه أن يتصدى لهذه الأهوال.

ولكن لماذا تراه يحفظ القاموس؟

Unknown page