يندر أن تورث العبقرية، ولا يندر أن تورث الأذواق الحسية، وقد كان والد كبلنج مديرا لمدرسة الفنون في لاهور، وكانت والدته وأخته تقرضان الشعر ولهما ديوان نظمتاه معا وسمتاه «ديوان أم وبنت». فكبلنج قد ورث الذوق الفني من أبيه وأمه، وزاد في الملكة بما ليس عند أبويه، فدقة الملاحظة أصيلة فيه مكينة في نفسه، وقدرته على الوصف هي شعبة من تلك الملاحظة الدقيقة، ومسحة من تلك القدرة الفنية الموروثة، ويقول الذين عرفوا آله وأقرباءه: إنهم كانوا جميعا من الطراز المفراح المقبل على الحياة، فهذه الحيوية الدنيوية إذن طبيعة في الشاعر قد ورثها من أبويه كما ورث منهما الذوق ودقة الشعور، ولا اتفاق بين هذه الطبيعة وبين ما ينعته به بعض النقاد من الكزازة، والجفاء، وضيق العطن، ونعوت أخرى لا تدل على المعهود في كلامه وفكره، فلعله تخرص الحساد، أو جهل الفضوليين الذين يكلفون الناس ما لا يطاق ويريدونهم على الصبر والرضا بكل صغيرة تخطر لهم، ولا يسمحون لهم بقليل من التحفظ والامتعاض، أما الذين عاشروا الرجل فيذكرون له المحضر الأنيس والنكتة المليحة، وإليه تنسب تلك النكتة التي تداولتها الصحف في أيام حملة النساء المطالبات بحقوق الانتخاب، فقد قال كبلنج لسيدة منهن: أولم تأخذ النساء بعد ما فيه الكفاية؟ فقالت السيدة: كلا! فلماذا يقسرون المرأة على أن «تأخذ» اسم زوجها؟ قال كبلنج مبتسما: ولماذا تترك له اسمه وقد أخذت كل شيء غيره؟ فكانت فصل الخطاب!
لسنغ1
بعد مائتي سنة من مولده
1
كان هيني من المعجبين بلسنغ أشد الإعجاب، وأنا من المعجبين أشد الإعجاب بالكاتبين الشاعرين معا، وأعتقد أنهما خير أدباء ألمانيا، وأن كلا منهما - ولا سيما هيني - مثل فذ في تاريخ الدنيا لا يضارعه في نوعه مضارع، ويندر أن يعجب الإنسان بأديبين أحدهما معجب بالآخر يرى فيه مثل رأيه ويحس نحوه مثل إحساسه، فمما يسرني أن أدع الكلام هنا لهيني يقول في لسنغ ما كنت أقوله لو أتيح لي أن أكتب بقلمه، أو يقول فيه ما هو صورة أنيقة صادقة لذلك الأديب في رأي كل من يقرؤه ويعجب بسجيته وأدبه. قال هيني في كتابه عن الدين والفلسفة:
ما من ألماني ينطق باسم لسنغ إلا ولهذا الاسم في صدره صدى مختلج، فمن عهد لوثر لم تنجب ألمانيا رجلا أعظم ولا أكرم من جوتهلد أفرايم لسنغ، وهذان هما آيتا الفخر والفرح لنا نحن معشر الألمان، نثوب في قلاقل الزمن الحاضر إلى مثاليهما المؤسيين فيجيباننا بنظرة حافلة بالأمل المشرق، وسيجيء بعدهما الرجل الثالث، الذي يتم ما بدأه لوثر ومضى فيه لسنغ، فهو بعدهما ثالث المحررين.
كان فضل لسنغ كفضل لوثر، فهو فيما خلا أثره الواضح المعروف الذي قام به قد ألعج روح الشعب الألماني من أعماقه، وأيقظ بنقده وحواره حركة عظيمة جامعة في العقول. كان نقده مسعر الحياة في وزمانه، بل كانت حياته كلها حملة حوار.
وقد سرى الإحساس بنقده النافذ إلى أوسع نطاقي الفكر والشعور في عالم الدين والعلم والفن، فهزمت براهينه كل مناجز وخرجت من كل نصر أقوى وأمتن، وكأنه كما قال عن نفسه كان يحتاج إلى النضال ليستنمي قواه ويبلغ بها حد الكمال، فهو كذلك البطل الشمالي الذي يتحدثون في الأساطير أنه كان يرث ذكاء من يقتلهم ومعرفتهم وشجاعتهم، وأنه انتهى بذلك إلى أن يستجمع في نفسه كل معاني الفضائل والكمالات. ولا يصعب علينا أن نفهم كيف استطاع هذا المقاتل المغوار أن يثير غير قليل من القلق في ألمانيا، ألمانيا تلك التي كانت يومئذ تتلفع بسبات أعمق من سباتها اليوم، فقد أذهلت جرأته الأكثرين، فكانت له هذه الجرأة خير نصير، ولا عجب فالجسارة سر النجاح في الأدب كما هي سر النجاح في الثورات وفي الغرام، فكانت فرائصهم ترتعد قاطبة من سيف لسنغ، وكانوا ولا رأس بين رءوسهم يسلم من ضرباته الدامغات، نعم فقد طاح برءوس كثيرة لمحض العبث والاعتداد بالقوة؛ وقد بلغ من نكايته أنه كان يرفع تلك الرءوس من حيث هوت على الأرض ليلوح بها للجماهير الناظرة إليه يريهم أنها خواء وأن بواطنها فراغ من كل شيء، ومن لم يصل إليهم سيفه أطلق عليهم سهام ذكائه تصميهم أنى ثقفتهم، فيعجب الصديق لدقة الريش في تلك السهام وتقع من العدو في صميم الشغاف، ولم تكن دعابة لسنغ تشبه هذا المرح وهذه الألاعيب الذائعات هنا في فرنسا - كان هيني يقيم في فرنسا - لا! لم تكن دعابته ككلب الصيد الفرنسي الصغير الذي يلاعب ظله، وإنما كانت هي القط الألماني الذي يلعب بالفأر قبل أن يقضي عليه.
أي لعمر الحق لقد كان الحوار متعة صاحبنا لسنغ وسروره، فما كان يبالي أكان مناجزه كفؤا له أم كان دون قدره، ورب أسماء قد أنقذها بالحوار من خمول هي أهل له عاشت في كتبه وحولها نسيج من أبرع التهكم وأمتع الفكاهة، كأنما هي حشرات مقبوضة في لفافة، فقد خلد خصومه لأنه أرداهم وقضى عليهم، ومن هنا كان يسمع بذلك ال «كلوتز» الذي أنفق لسنغ عليه ما أنفق من اللواذع والسخريات؟ إن الصخور الضخام التي دهداها عليه وسحقه بها كانت هي الصوة الخالدة التي دلت على طريق مصرعه.
وخليق بالتنبيه هنا أن هذا الرجل الذي كان أذكى الألمان كان كذلك أنبل الألمان، فلا شيء يعدل حبه للحقيقة، ولا موضع عنده لمساومة الباطل، ولو كان بهذه المساومة يخدم الحقيقة كما قد يفعل بعض الحصفاء في بعض الأحايين، فهو يقدم على كل شيء من أجل الحقيقة إلا أن يكذب من أجلها، وقد قال مرة: «إن الذي يجلب الحقيقة للناس محجبة مخضبة قد يكون سمسارها، ولكنه لن يكون عاشقها المفتون بجمالها.» وإنه لمما يكسر القلب أن تقرأ في ترجمته كيف بخلت الدنيا على هذا الرجل بكل مسرة حتى استكثرت عليه أن يلوذ إلى بيت يطمئن إليه، وقد خيل إليه مرة واحدة أن الحظ يبسم له فحظي بنعمة الزوجة المحبوبة وحظي بنعمة الأبوة، وسرعان ما حظي بهما حتى أفلتت منه النعمتان معا فكانت سعادته كشعاع الشمس يسطع على جناح طائر، فماتت زوجته وهي تلد ومات الطفل على أثر الولادة! وكتب عن ذلك الطفل إلى صديق له هذه الكلمات التي فيها ما فيها من فكاهة الرعب والأسى: لقد كان سروري قصيرا وكان فقدي إياه على كره ذلك الولد النجيب! فقد كان حكيما واأسفاه! نعم كان حكيما يا له من حكيم! ولا يخطر لك على بال أن هذه الساعات القلائل التي قضيتها في الأبوة قد جعلت مني أبا مسلوب الصواب بحب وليده، فليس الأمر كما تظن وإني لأعرف ما أقول، أليس من الحكمة أن يسحب ذلك الوليد إلى الدنيا بمقابض الحديد، وأنه لا يلبث فيها هنيهة حتى يلوح له ضلاله؟ أليس من الحكمة أن يغتنم فرصته الأولى لفراق هذه الحياة؟ آه! لقد عن لي مرة أن أسعد كما يسعد الناس فأخفقت في أملي أيما إخفاق. ... كان لوثر النبي الذي أومأ إلى الناس من سفر العهد الجديد إلى السفر المقدس الثالث. دعوته خليفة لوثر وأتكلم عنه هنا بهذه الصفة، ثم أتكلم بعد عن مكانه الفني، ففي هذا المجال كان له عمل ناجع في الإصلاح، وكان أثر سيرته لا يقل عن أثر كتابته في ذلك الإصلاح وهذا الجانب من جوانب جهاده هو أبرز ما ظهر له بين الناس وأكثر ما يدور الكلام عليه عند ذكره، ولكننا إذا نظرنا إليه من موقفنا الراهن بدا لنا أن معاركه الفلسفية والدينية أكبر خطرا من كل رواياته ومن كل آرائه في الروايات، على أن رواياته - كجميع ما كتب - لها شأنها الاجتماعي لا مراء، فما كانت «ناتان الحكيم» إحداهن قصة حسنة على المسرح فحسب، بل كانت كذلك رسالة في الفلسفة والفقه تؤيد الإيمان الخالص بالله وحده، إذ كان الفن عند لسنغ منبرا للعظات ينزل من منصة الوعظ أو من كرسي الأستاذ فيثب إلى المسرح لينطلق في الكلام ويظفر بالعدد الأكبر من السامعين، وقد قلت إن لسنغ متمم عمل لوثر؛ لأننا بعد أن قام لوثر فأطلقنا من عقال الموروثات ورد المسيحية كلها إلى ينبوع واحد وهو ينبوع الكتاب المقدس، رجعنا إلى الكتاب المقدس فعبدنا حرفه وران على العقول حكم الألفاظ، كما ران عليهم حكم الموروثات القديم؛ فلما جاء لسنغ كان له الفضل الأكبر في التحرير من طغيان الحروف.
Unknown page