وما من شيء في الدنيا هو شر في ذاته ولذاته، وإنما يكون شرا حين يضاف إلى غيره ويستعمل في موضعه. ف «الميكروبة» كما يقول أوليفر لودج: فتح من فتوح الحياة حين تخلق وتتميز من المادة الصماء، ولكنها بلاء على الحياة حين تصارعها في جسم حي آخر فتضنيه أو ترديه، فما بال الميكروبة إذن لا تكون جميلة إذا كان لها وجود مستقل يمكن إدراكه والتأمل فيه بمعزل عن الأحياء الآخرين!
وربما كانت مسألة الشر في بعض الأحايين مسألة مقادير لا مسألة أساس ولباب. فالسم قليله خير وكثيره شر، وقد يكون قليله وكثيره جميل المنظر إذا اجتزأنا منه بالنظر البعيد.
وربما كانت مسألة الشر أيضا مسألة أفراد وأوقات، لا مسألة عموم ودوام، فما يكون شرا لهذا يكون خيرا لذاك، وما يتقى شره في زمن قد يطلب خيره في زمن سواه، فهو ليس بالقبيح على إطلاقه، وما دام كذلك فلا تناقض بينه وبين الجمال ولا حرج على الفنان أن يوجه إليه ملكة الفن الجميل.
وهب أن شيئا ما لا يكون أبدا إلا قبيحا مخيفا أليس من وظيفة الفنون أن تحرك فينا الشعور بالحياة، وتنبه فينا كوامن الإحساس بكل ما في هذا الوجود الذي نعيش فيه؟ فالفن لا يخطئ حين يمثل الشر المخيف، والخوف في ذاته كالسرور إذا قسناه بمقياس الإحساس، ولم ننظر إلى العواقب وراءه والأسباب، ولكننا إذا أجزنا للشاعر أن يتخذ الشر موضوعا في بعض الأحيان لا نبرئه من تهمة المسخ والانحراف حين ننظر في شعره فلا نرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض، فنقول: إنه شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ثم نقول إنه يحس هذا دون غيره؛ لأنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة.
ذلك مجمل رأيي في سؤال الأستاذ طه حسين، وهو بعد رأي يتسع فيه القول للتمثيل والإسهاب.
قضية المرأة1
في هذا الأسبوع انقضت عشرون عاما على وفاة المصلح الكبير قاسم أمين، صاحب كتابي «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وأول من رفع صوته في الشرق القريب بإصلاح المجتمع من طريق إصلاح النساء، وقبيل ذلك بأيام وصل إلي كتاب «السفور والحجاب» لصاحبته الكاتبة الأديبة الآنسة نظيرة زين الدين الذي قصدت به إلى «تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي» وطلبت إلي أن «أحلل الكتاب تحليلا؛ فما كان فيه خير للأمة أظهرته لها إظهارا جميلا، وما كان غير موافق أشير إليه ليبدل تبديلا.»
فمقال هذا الأسبوع إذن مقدور «لقضية المرأة» وأنا أكتب في هذا الموضوع لأقول كلاما مداره وفحواه أنها قضية نعرف المدعي فيها، ولكننا لا نعرف المدعى عليه.
وبيان هذا أننا لا نجد المرأة مظلومة في أمة إلا كان الظلم من نصيب غيرها كما هو من نصيبها، بل ربما كان نصيبها هي منه أرفق وأسلم من نصيب غيرها؛ لأن المرأة لا تظلم إلا حيث يكون جهل وعسف، ولن يكون الجهل والعسف في خليقة دون خليقة وفي جهة من الحياة القومية دون بقية الجهات، وقد يعصم المرأة بعض العصمة من طغيان ذلك الظلم أنها تتشفع إلى ظالميها بشفاعة الأمومة والمحبة والقرابة، فيخف وقعه عليها أو يمتزج بالحنان والرحمة، فتأخذ «المرأة» في حياتها البيتية بعض ما حرمه النساء في الحياة القومية، وتصول الأم والزوجة والحبيبة بالسلاح الذي سلبته «الأنثى» في صراع الدنيا، أما الرجال فالظلم الذي يصيبهم لا هوادة فيه ولا ترفيه، والجهل الذي يصيبون به المرأة يضربهم بأيديهم في غير رحمة ولا شفاعة.
لما كانت المرأة تسام الذل والهول كانت الأمم تساق إلى الطاعة والعبادة سوق القطعان، وكان الدين سوط عذاب والملوك آلهة لا يعدلون في ثواب ولا عقاب، ولما كان الظلم شريعة الأمم كانت ضحاياه بين النساء أقل وأهون شرا من ضحاياه بين الرجال، فليس للمرأة قضية على الرجل يعدل فيها هو أو يظلم كما يشاء هواه، وإنما الرجال والنساء أصحاب قضية واحدة يشكون فيها الطبيعة تارة والشريعة تارة أخرى، والجهل والفاقة والجمود والمصادفات تارات أخريات، وإذا حكم في تلك القضية لأحد الفريقين فقد حكم للفريقين معا وخرج الرجال والنساء فائزين من الخصومة! لأن الرجل لن يعرف الإنصاف إذا جهلته المرأة، والمرأة لن تسعد بحق تجور به على حقوق الرجال.
Unknown page