ولكن ما الحكم في شأن إبسن من حيث فنه وأثره في الحياة الاجتماعية؟ أما الفن فخصوم الرجل يشهدون له بالشاعرية، وجيشان الخوالج النفسية، ويعجبون بقدرته على رسم بعض الشخصيات بذلك الإتقان الذي لا يعهد إلا في كبار الروائيين، ولكنه كان كثيرا ما يزج بنفسه بين أشخاص رواياته فيلبسهم ثوبه، ويلقي على ألسنتهم كلامه، ويعيرهم أشجانه وهمومه؛ فبيرجنت مثلا كان صورة أبيه وآس كانت صورة أمه مع شيء من المبالغة والتحريف ، والمنافسة التي بين سكول وهاكون في رواية طالبي العرش هي المنافسة التي كانت بين إبسن وزميله بجورنستين في عالم التمثيل، وإذا هو لم يدخل حياته بين تضاعيف الرواية بلون من الألوان فكثيرا ما يجعل البطل أو البطلة ألعوبة كألاعيب «خيال الظل» لترديد آرائه وإلقاء كلماته، فالأبطال في رواية «الأرواح» خيالات يحرك المؤلف ألسنتها من وراء الستار وينقلها سياق التفكير في ذهنه هو لا في مواقف الرواية، والعجيب أن إبسن نفسه يقول عن «الأرواح» لأحد أصدقائه: «إن المؤلف لم يقف قط بمعزل عن الحركة في رواية له كما وقف في رواية الأرواح»، وهذا مثل آخر على خطأ الشعراء والكتاب فيما يحكمون به من مؤلفاتهم وآثارهم، فقد يدركهم فيها ضعف الأبوة، فيحبون في موضع النقص ما لا يحبون في موضع الكمال.
وقد سلمت شخصيات غير قليلة من جور المؤلف، ومشاركة حياته في حياتها، وسلمت جميع رواياته من تمحل الأسلوب القديم في الروايات، وتكلفه للختام الباهر، وشتاته في الزمان والمكان، بل لقد بلغ به التحرز من هذا حد الوسواس، ولم تبلغه النزوة القديمة إلا مرة في رواية العرش، حين رد الكاهن الخبيث طيفا ينطق بالنبوءات ويستكشف العواقب، ولكنه لم يكد يسلم في رواية واحدة من آفة الإملال والفتور، فلولا معونة كريمة من الناظر لما استطاع المؤلف أن يمسكه في كرسيه إلى الختام.
أما المحور الذي تدور عليه روايات إبسن فلا يندر أن ينتهي على غير طائل، أو على فكرة لا تطابق صدق العلم ولا صدق الطبيعة، ولا تدل في استعراضها ومرماها إلا على خبل واختلاط؛ فالأم في رواية الأرواح تخاف على خلق ابنها من عدوى أبيه، فتدفع عنه الخطر وتلتمس له النجاة من فساد الأحلاق، ولكن أيدري القارئ بماذا تدفع عنه ذلك الخطر الموروث؟ بإرساله بعيدا منها إلى باريس ليعيش في بيئة الفنانين، ويستفيد هنالك فضيلة الخلق المتين! ولما مات الأب وقفل الابن إلى داره لم تمض عليه ساعات حتى غازل الخادمة في المطبخ كما كان يفعل أبوه! فتصيح الأم إنها الأرواح، وإنها هي خلائق الآباء تظهر في الأبناء، كأن الوراثة نسخة «مطابقة للأصل» في كل حادث وفي كل حركة، وكأن الولد لا يرث عن أبيه خلقه إلا إذا غازل حيث كان أبوه يغازل بلا تصرف ولا تنويع، وكأن البيوت البريئة من عاهات هذه الوراثة لا تقع فيها المغازلات بين الأبناء الشبان والبنات الخادمات، ولكنها هي «هوسة» إبسن بالوراثة لا ينساها في رواية، ولا تزال أرواحها تعدو وراءه إلى كل مكان.
وفي رواية «بيت اللعبة» يجيء لنا إبسن بامرأة لها ثلاثة أطفال وزوج لطيف يدللها ولا يسيء إليها، وتنقضي بينهما ثماني سنوات في منزل الزوجية وهي تسرف وزوجها يمدها بالمال الذي تنفقه بغير تذمر ولا سآمة، ثم إذا هي في ليلة واحدة تهجر ذلك الزوج، وتهجر أولئك الأطفال، وتهجر ذلك المنزل ، ولا تطيق أن تبيت فيه ليلتها إلى الصباح، ولا تقبل من ذلك الزوج الودود الذي لا يزال يعرض عليها المساعدة إذا احتاجت إليها كثيرا ولا قليلا في يومها ولا في غدها. لماذا؟ لأن زوجها اطلع على جريمة تزوير اقترفتها هي لأجله فهاله الأمر وكبر عليه أن تكون قنبرته وسنجابه وعروسه إلى آخر تلك الأسماء التي كان يناغيها بها جانية مزورة! ثم زال الخوف من الجناية ولكن «نورا» أي الزوجة وجدت في لمحة عين أنها يجب عليها توا أن تهجر ذلك الزوج، وتهجر أولئك الأطفال المساكين، وتأبق من البيت تحت ظلام الليل إلى حيث لا تدري ولا يدري إبسن! وكيف وجب عليها ذلك؟ قيل: وجب عليها ذلك؛ لأنها مطالبة بفريضة عليها لنفسها غير فريضة المجتمع، وغير فريضة الأمومة، وغير فريضة الزوجية، وغير كل فريضة فرضتها الطبيعة والناس على النساء، وإن المرأة لا تكون وفية لتلك الفريضة حق الوفاء إلا إذا صنعت ما صنعته «نورا» وداست على كل شيء في سبيل «الحرية الفردية».
ثم يجيء إبسن إنجلترا «برناردشو» فيهذي هذيانه في هذه الحكاية، ويرفع راية الإنصاف لأولئك النساء المظلومات اللواتي جار عليهن الرجال؛ لأنهن يلدن ويخلصن لبيوتهن وأبنائهن! ويجيء مجاذيب العلم ودراويش الفردية فيلعنون الرجال؛ لأن النساء قد خلقن يطلبن الأولاد والأزواج! وما ذنب الرجال في هذا؟ قيل: ذنبهم أنهم لا يؤمنون بالعلم الذي جعل النساء كالرجال في كل شيء في القرن العشرين، بل سوغ لهن على هذا القول حقوق الفردية المطلقة التي لم تسوغها الدنيا قط لإنسان، ولن تسوغها أبدا لإنسان ولا لغير إنسان! وحجتهم في ذلك أن العلم لم يثبت لنا فرقا بين الرجل والمرأة، فلماذا أثبت الرجال فرقا بينهم وبين النساء؟ كأنما العلم استطاع أن يثبت فرقا بين أعظم عظيم وأحقر حقير بطريق التشريح والتحليل، أو كأنما العلم لم يثبت لنا أن الأنوثة صفة سلبية في كل حيوان، بل في كل نبات ظهر فيه التذكير والتأنيث، فالأنثى في النبات لا تنقل لقاحها إلى الذكر بل تنتظر اللقاح من ذكور النبات حتي يجيئها مع الريح أو مع الحشرات، والأنثى في الحيوان لا تحمل إلا أن تعرض محاسنها وتنتظر من يفوز بها ممن يتنازع عليها، والأنثى في النوع الآدمي تخجل من المفاتحة؛ لأنها تزري بأنوثتها وتقدح في أمس صفاتها بها وأعرقها في صميم تكوينها، وهذه الطبيعة التي جعلت الأنوثة «سلبية» لا تستقل بعمل إيجابي هي التي قضت على «فرديتها»، ذلك القضاء الذي لا حيلة فيه لامرأة ولا لرجل، فماذا يصنع العلم وماذا يصنع القانون في حقيقة هي أقدم من العلم والقانون، وأقدم من الإنسان والحيوان؟ وأي فائدة من نكران هذا القضاء المبرم غير مسخ الطبيعة، وإطاشة الأحلام؟
وربما كان من سخر الأقدار أن يكون إبسن صاحب رواية «بيت اللعبة» هو الرجل الذي كان لا يأتمن زوجه على خياطة أزراره، ويأبى إلا أن يخيطها بنفسه؛ لأنه كان يعلم أن النساء لا يعملن شيئا فيوثقنه حتى خياطة الأزرار! ولكن إبسن كان كما قلنا رائدا يجمح كما يجمح الرواد، ويغفل عن العاقبة لاستغراقه في غمرة النزاع والجهاد، فإذا ناقض نفسه وجنى على المجتمع ضررا من جمحاته فعلى الذين بعده أن يصلحوه ويستدركوه، ويقفوا منه على حدود الإفراط الذي دفعته إليه الضرورة، ولعله بعد لم يكن إلا علامة من علامات زمانه يقول في الروايات ما يوشك أن يفعله الزمان في الحياة.
الحقائق الشعرية1
كيف يجب أن تفهم؟
كل شيء نسبي، ونحن لا نعرف شيئا قط إلا بالنسبة إلى غيره، هذه حقيقة علمية، وليست بحقيقة شعرية أو خيالية، يقول فيها كل قائل حسبما يغريه به حسه وخياله.
فلو ولد اثنان فسار أحدهما على سرعة الأرض حول الشمس، وسار الآخر على سرعة الضوء في تلك الدارة لعبر المسافة بعينها، وعمر أحدهما سنون عدة وعمر الآخر بضع دقائق، وإنما يقاس عمرهما بنسبة السرعة التي يسيران عليها، ولا نهاية للتفاوت بين الأشياء المتحركة في درجات السرعة.
Unknown page