أما العرف الشائع فقد أخطأ أشد من هذا الخطأ في فهم «الجنتلمانية»، فجعل المجتمع الحاضر - بل جعل البيئة الخاصة من المجتمع الحاضر - هي الحياة كلها، وهي محور الآداب والكفاءات، فلا أدب ولا كفاءة إلا ما يرضيها، ولا شيء في الدنيا جل أو صغر يبيح الإنسان أن يطرح أحكام هذه البيئة، ويجسر على إغضابها. فضاعت في هذا التقدير الفضائل النوعية التي إنما جبل عليها الإنسان لتقويم نوعه وتحسينه لا للاستغراق في بيئة زمانه والتفرغ لإرضائها عنه، وأصبحت هذه الفضائل التي تتفاوت بها الأقدار والمواهب كالنوافل المهملة في جانب الظواهر التي يقتضيها المجتمع من عباده. مع أن هذه الظواهر لا فائدة لها إلا كفائدة الزيت في تسهيل الحركة على العدد، وتليين العلاقات بين أجزاء الأداة الكبيرة المسماة بالأمة أو البيئة، ولكنها ليست هي العدد وليست هي الوظيفة التي أريدت بتركيبها وهندسة أجزائها وتقويم بنائها. إنما هي الزيت الذي يسهل حركاتها ويلين علاقاتها، ولا فائدة له إذا استغنت عن تسهيل الحركة وتليين العلاقات.
وإذا شئت أن تسبر مدى هذا الخطأ فتصور عظماء الإنسانية الذين هذبوا عقولها، وثقفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها، وأسرار علومها محرومين من حق العمل والتقدير، إلا أن يكونوا على وفاق البيئة الجنتلمانية، وأحكام الأندية ومحافل الظرفاء! ثم تصور كم تخسر الإنسانية من فقد أولئك العظماء وتعويضها بجنتلمان عصري عن كل عظيم مفقود، فإنك لا تملك نفسك أن تبتسم حين تتصور موسى وبوذا والمسيح ومحمدا أو بولس الرسول وهومر وأفلاطون والغزالي وأشباههم وأندادهم محاسبين في معاملات الحياة بحساب الأندية وقسطاس الظرفاء! ومتى ذكرت ذلك فإنك تذكر لا محالة أن الرجل قد يسخط أبناء جيله، ويزري بما تواضعوا عليه، وينبذ كل ما تفرضه عليه البيئة، ثم يظل بعد هذا كله إنسانا عظيما خليقا بالحب والإكبار.
فلا سبرمان نيتشه إذن، ولا جنتلمان العرف الشائع، ولكنما الإنسان الذي تمتزج فيه حقوق الفرد والبيئة والإنسانية جميعا هو مثال الكمال المطلوب، فإن سألت أي هذه الحقوق ينساها إذا اشتجرت في نفسه، واستحال عليه التوفق بينها، فاجزم بأنه ينسى فضائل الفردية والبيئة في سبيل فضائل الإنسان الباقية؛ لأنه طالب كمال والكمال معلق بالدوام ولا بحاجات نفسه الزائلة، ولا بالزمان المحدود الذي يعيش فيه.
توماس هاردي (1)1
أتراهم إذ يسمعون أنني سكنت سكوني الأخير، ينظرون على الأبواب إلى السماء قد حفلت بالنجوم التي يشهدها الشتاء، ويهتف نجي من الذكر في إخلاد أولئك الذين نزل الحجاب بيني وبينهم فلن يروا لي بعد ذلك وجها، فيهمس لهم أن قد مضى، وكانت له عين موكلة بهذه الغوامض والأسرار.
كذلك قال توماس هاردس في قصيدته الختام، فكأنما أوحى إليه لسان الغيب أنه مفارق هذه الدنيا في ليلة من ليالي الشتاء، ترتفع العيون إلى سمائها فتذكر الشاعر الذي كلفت عينه بالنجوم، وشملتها قريحته بسواد من الحزن الذي شملت به كل موجود: ثم أغمض عينيه عنها فأطبقا على ظلام كظلام الليل الذي كان فيه، لولا أنه ليل لا تشرق في سمائه نجوم، ولا يستنزل فيه وحي القصيد.
ألا من منبئ الشاعر الذي سكن اليوم سكونه الأخير، أن له في النفوس لذكرا تجدده كواكب الشتاء وكواكب الصيف، وتعيده ظلمات النفوس، وما يسطع في ثناياها من الشهب والشموس، وأنه لحبيب إلى كل قلب عرفه في حياته، وسيظل حبيبا إلى كل قلب سيعرفه بعد مماته، فإذا شخص الناظر المفعم الفؤاد إلى طلعة الفجر يتراقص فيها الورق اليابس والأخضر، كما تطايرت الأطياف من عصا الساحر، أو شخص إلى الليل كأنما يزحف إلى الشرق محسوس الحركة ملموس الجلباب، أو شخص إلى الكواكب تخالجه الرهبة من التفرد معها في غيهب الظلام، أو شخص إلى الشمس يعجب لعبادها وما وفقوا له من الهدي القديم، فهو ذاكر لا محالة صاحبه هاردي صاحب «ساكني البرج» و«تس» و«في معزل عن هيجة الزحام» ومسائل الطبيعة ليلها ونهارها، وطيرها وأشجارها، عما لا علم لها به من غوامض وأسرار.
توماس هاردي.
وإذا انقلب الناظر إلى فؤاده يتردد فيه بين ينابيع الرجاء، ومفاوز الخوف، ومروج الدعة ووعور المحنة، وصحراء اليأس، وسراب الآمال، فهو لا ريب ذاكر في ذلك العالم المستهول دليلا كأرفق ما يكون الأدلاء الذين جاسوا خلال القلوب، وسبروا أغوار السرائر، ونشروا في ذلك الميدان المكظوظ بالأشلاء والمصروعين أخوات من الرحمة، طاويات الضلوع على أسى وإشفاق، باسمات الوجوه عن صبر وإيناس، يضمدن الجروح، ويجبرن الكسور، ولا يخدعن أحدا بغير الحق، ولا يضحكن للملهوف ضحك الغواية والغرور، فإن عزاء لكل نفس أن تكون الحياة قد ضمت بين ضيوفها في يوم من أيامها رفيقا كذلك الشاعر الذي كسا الحزن رحمة، وجعل للشك قرارا كقرار الإيمان، وزان السواد بخير ما تجتمع فيه الزينة والحداد، وإن أنسا لسالك هذا الدرب الموحش أن يخاف فيه كما خاف ذلك الرفيق، وأن تفارقه الطمأنينة كما فارقت ذلك الصابر المطمئن إلى كل مستنفد للصبر، ملعج لسكينة الاطمئنان.
لقد كان هاردي من أحب القانطين إلى القراء وأخفهم محملا على الموافقين له والمخالفين في الرأي والشعور، فقد كان الرجل بين الشك، بل كان في بعض قصائده بين الإنكار، وها هو ذا بعد موته يدفن في مقبرة وستمنستر أي في مقبرة الدير الذي يشرف عليه القسوس، وكان أبعد الناس عن الملوك والأمراء فلم يبعده ذلك عن حبهم وإكبارهم، ولا قعد بولي العهد أن يقصد إليه منذ خمس سنوات ليزوره في بيته حيث يقيم في الريف، وكان منقبضا عن الحياة فلم يحل ذلك بينه وبين المستبشرين بها، ولم يقطع ما بينه وبينهم من المودة والإعجاب.
Unknown page