112

Sacat Bayna Kutub

ساعات بين الكتب

Genres

وتعجبني كلمة لوزير إنجليزي - أظنه تشمبرلن الكبير - إذ عيره خصومه أنه تحول من رأي كان يؤيده ويشتد في تأييده، إلى رأي يناقضه كل المناقضة، فقال الوزير الأريب: إنني لا أحب أن أستعبد نفسي حتى لما كنت أقوله في أمسي! وتلك كلمة قد يقولها السياسي اللبق ليقضي بها لبانة ويخدع بها جمهورا، ولكنها قد تجري على لسان الحكيم، فلا يعيبها مراء ولا يشوبها خداع.

وإن الخطأ لمعدود في بعض الأحوال من فضائل الإنسان، ودلائل الإدراك، فالنحلة لا تخطئ في شكل خلاياها، ولا تغلط في تقويم مكعباتها، والإنسان عرضة للغلط في كل شيء يرسمه، وفي كل بناء يقومه، ولا يكون غلطه إلا دليلا على سعة الجوانب، واضطلاعه بأعباء الصواب، وقد نهبط من النحلة إلى الآلة المسيرة، فنقول: إن المطبعة لا تنحرف نسخة من كتابتها عن نسخة، وقد تنحرف كل نسخة يكتبها الإنسان عن الأخرى، فمن الاستعداد للصواب أن تكون مستعدا للخطأ، ومما يشين الصواب ألا تكون قادرا على غيره، ولا مختارا في اتباعه والمواءمة بينه وبين زمانه ومكانه.

وفي تركيب الطبائع أن تحب الذين يدركهم ضعف الإنسانية، وتنفر ممن لا يدركهم ذلك الضعف في بعض جوانب الشعور، فإن النفس التي تشعر تخطئ، والنفس المعصومة ليست من بني الإنسان، فلا قرابة بيننا وبينها ولا تعاطف ولا محبة، والطفل أكثر الناس خطأ ولا يمنعه ذلك أن يكون أحب إلينا من الكهول الحكماء، والشيوخ المحنكين؛ لأن العطف من الحياة والحياة لا تنافي الخطأ وإنما تنافي الجمود، فلا الفكر إذن ولا العاطفة يمنعان الخطأ، ولكنهما يمنعان أن يظل الإنسان آلة تستعبدها العادة وتستكين بها السهولة، ولا أدري ماذا يعني من قال إن الحياة تضحية مستمرة، ولكني أستطيع أن أفهم من قوله هذا أن التزام العادة أثرة مريحة، وأن تغيير العادات تعب وتضحية، وأن الحياة لا تني تدفعنا في طريق تغيير العادات، فلا نطمئن إلى مألوف حتى نزهد فيه لنألف، ثم نزهد فيه دواليك بغير انتهاء، فالحياة بهذا المعنى فداء متجدد، وألفة بعدها فرقة، وفرقة تعود إلى ائتلاف.

الناس أحباء ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، هذا صحيح، وقد يكون صحيحا مثله أن الناس أعداء ما ألفوا، أحباء ما جهلوا، فإننا لا نزال على ما فينا من الاستراحة إلى المألوف الذي نهواه مدفوعين إلى المجهول الذي لا نراه، ولا نزال نألف ثم نترك ثم نألف، فنشقى بهذا النقل ولا يلوي بنا الشقاء، وقوام القولين أن العادة راحة وسكون، والحياة حركة وابتداع، فنحن بخير ما جرت عاداتنا على سنة الحياة ، وبقيت لنا القوة التي تعيننا على تبدل الراحات، وتعاقب المألوفات حتى إذا فقدنا هذه القوة أصبحنا شيئا آخر، لا يحسن التبدل أو لا يحسن الحياة، وفقدنا العادة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العادات.

العقل والعاطفة1

حول رد الأستاذ الزهاوي

قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردا للأستاذ الزهاوي على مقال كتبته عنه مجيبا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ الزهاوي من الملكة العلمية، أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي، فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول: إنه فيلسوف، وإنه شاعر، لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدا أو أكثر، فإنني لم أتكفل بهم، ولا تحسب علي أخطاؤهم، أو يختلس مني صوابهم، ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح، فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام، وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ الزهاوي من الفلسفة والشعر ولا لمطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.

ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ الزهاوي لأعمال الإنسان، ولهذا هو يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف - فضلا عن الشاعر - إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم الإنسان ومكانه في هذا الكون، كما هو إنسان في حقيقته لا يتصوره الذين يستهدون بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور، وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة من ذلك المقال. (1)

يقول الأستاذ الزهاوي: «من طار بجناح العقل أخيرا لندبرغ؛ وصل إلى باريس من نيويورك في 34 ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»

وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في 34 ساعة، ولعلهم يصلون غدا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب، ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله إلا كانت العاطفة هي محركه وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلما من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة، واتجهت إليه الرغبات. وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.

Unknown page