وبالشخصية أو بالوطنية يناط أشرف أسباب الحياة، وهو الأمل في السمو والارتفاع. فما بقي للإنسان هذا الأمل فكل مفقود غيره لا يضيره، وما ضاع منه فكل موجود غيره لا يفيده. قد يفشل الفرد أو قد تنخذل الأمة، فإذا بقي لهما بعد الفشل والهزيمة أمل في الرفعة، فالهزيمة كالنصر، والضرر كالغنيمة، وقد يسلم الفرد أو قد ترغد الأمة فإذا اشتريا السلامة بفقدان الأمل في الرفعة، فتلك سلامة الذي لا يخاف على نفسه؛ لأنه أضاعها والذي لا يجشم الدفاع عن وجوده؛ لأن وجوده عالة على غيره، وتلك هي منزلة الحيوان السائم أو هي منزلة الموت إذا كان لا بد أن تكون الحياة حياة إنسان.
سأل الأستاذ الفرنسي فقيدنا سعدا، وهو يتقدم لامتحان الإجازة الحقوقية: أليس من حق الأمم الممدينة أن تستعمر السودان؛ لأن أهله لا يعمرونه، والأرض بين خلق الله يرثها الصالحون؟ سؤال لم يكن ليغيب عن سعد وجه الصواب فيه، ولم يكن ليخفى عليه أن الاستعمار قد يأتي بالخير ويجلب العمار، ولكن ترى لو بطل التنافس بين أصحاب الأوطان، ومن يطمعون فيها لتعميرها أي معنى يكون للقوة والضعف والتقدم والتخلف؟ وأين هو الحق إذا كان المغصوب لا يعارض فيه ولا يطالب بدليله؟ فحق الأستاذ الفرنسي هو حق جيل واحد وقوي وضعيف لا يتغيران، وأما حق التلميذ سعد فهو حق الأجيال كافة، وحق جميع الأقوياء والضعفاء والنظرة الضيقة هنا هي نظرة الرجل الذي يريد من الأمم الضعيفة أن تستهدي بالفكر ساعة، ولا تستهدي بوحي الفطرة في جميع الأوقات، وليست هي نظرة الرجل الذي ينظر النظرة الأولى ثم يعود إليها؛ لأنها هي النظرة الأخيرة بعد كل ما يتمحله الفكر، ويلفقه الجدل.
فإذا أردنا أن نعرف هل الأممية خير أو شر ؟ فالمحك الذي لا يكذب هو أمل الرفعة، إن كانت «الأممية» تدع للداخلين فيها أملهم في الرفعة، فهي خير لا يناقض الوطنية ولا يضير الإنسان أن يفقد في سبيله ما توجبه عليه دواعيه، أما إذا كان فرضا مقضيا على الأمم يحرمها أبدا أن تسمو إلى مقام فوق مقامها، ويسجل عليها أبدا أن تدين لغيرها بالسيادة والتفوق عليها فهي آفة لا تمتزج بالوطنية، وخديعة لا يكون منها إلا ضرر معجل للضعفاء، ثم ضرر مؤجل للأقوياء، ولن تقيد الحروب والثورات، ولكنها تقيد عدد الخصوم، وجوانب الخصومة، وليس هذا بالغنم الذي يساوي خسارة الوطنية في ميزان الإنسان الخالد.
العادة1
بين نقائض الحياة
كلما ازددنا خبرة بالحياة، ظهر لنا أن أصعب ما فيها من المصاعب، إنما هو تغيير عادة، وأن الموت نفسه لا يفجعنا في أعزائنا، إلا لأنه يقتلع من نفوسنا عادات تعودناها، ويمنعنا مآلف طالما أوينا إليها، فلو مات نصف الناس - بل لو مات الناس جميعا - دون أن يغيروا لنا عادة في الحس أو في العقل لما تحركنا لهذا المصاب، ولا هالنا أن تنقضي كل تلك الحياة ونحن نضيق صدرا بحياة واحدة مألوفة لدينا تفارقنا ، وينقطع ما بيننا وبينها، ولو رجعنا إلى مصائب النفوس كلها لم نجد بينها إلا ما هو تغيير لعادة نحس به فجأة، أو على تراخي الزمن حسبما فيه من مصادمة أو مجاراة.
يقال: إن الحيوان لا يعرف الموت ولا يدرك كنهه، وإن كان ليهرب منه بغريزته، ويعمل كل ما يعمله عارف الموت للتعلق بحياته، والظاهر أن هذا صحيح، وأن عرفان الموت حصة الإنسان وحده من هذه الأحياء، ولكن إذا فهمنا من ذلك أن الحيوان لا يحس فقد الموتى من ألفائه ولا يحزن عليهم، فذلك خطأ تكذبه المشاهدة وينفيه التأمل. إنما نختلف عن الحيوان في هذا الأمر بشيء واحد هو أننا نعلم إن دهم الموت عزيزا علينا أن تغيير عاداتنا حاسم أبد لا رجعة له إلى آخر الزمان، وأن الحيوان يحس تغيير العادة، ولا يبعد بمداها إلى غير لحظته التي هو فيها، فالموت عنده والبعد إلى حين سواء في الواقع والصدمة وطبيعته من ثم أقرب إلى السلوان، وأبعد منه في آن واحد. أقرب إلى السلوان؛ لأن الفناء عنده كالفراق القريب لا يرجح أحدهما على الآخر عند حلول الكارثة، وأبعد من السلوان؛ لأنه هو ابن العادة وأسيرها فإذا تجمعت حياته على عادة من العادات، فقد يهلك عند تبديلها ولا يجد من العقل ذلك المعوان الذي يجده الإنسان، وذلك العزاء الذي يخلقه بالتأسي والأمل، وكلاهما محجوب عن الحيوان.
ومن خصائصنا نحن بني الإنسان اللغة، نحصر بها المعاني فنفهمها، ونحصرها أيضا فلا نفهمها، أو لا نحسها كما ينبغي لها من الإحساس بها، فهذه كلمة «مات» ماذا يتبادر إلى الذهن من لفظها مفردة بغير «فاعل» يقترن بها؟ يتبادر إليه أن فعلا واحدا حدث هو الموت، وأن شيئا واحدا بطل هو الحياة، ولكن هل هذا تصور صحيح للحقيقة؟ هل هذا من الحصر الذي يحيط بجوانب الحوادث، أو من الحصر الذي يطمسها ويخفيها؟ الحقيقة أنه لا الموت فعل واحد ولا الحياة شيء واحد، وإنما الموت أفعال كثيرة، أو بطلان أفعال كثيرة، والحياة هي كل ما يشتمل عليه معجمنا من أقوال وأفعال.
يعرف هذه الحقيقة بحسه ووجدانه من جرب فقد عزيز عليه. يعرف أنه يأسى على أشياء لا عداد لها حين يأسى على ذلك العزيز، يأسى على كلمات سمعها لن يسمعها بعد ذاك، وعلى ملامح رآها لن تلم بها عيناه، وعلى مجالس حضرها لن ترجع بها الأيام، وعلى مسرات اشترك فيها لن يجد شريكه عليها أبد الأبيد، وعلى غدوات وروحات ومناظر ومسامع وأشواق وفجائع تنتزع كل منها انتزاعا من مكانها في النفس الموجعة، فكأنما النفس بها مصرع أشلاء أو ميدان يئن فيه الجريح، ويبغت المصعوق، وكأنما في النفس مقتلة طائشة حين تنكب بفناء صديق له فيها ما له من الآثار، وكأنما كل أثر حفظته من صديقها روح حية، تعالج سكرات الردى وتستمسك بالبقاء، فالموت فعل واحد في اللغة، ولكنه أفعال لا حصر لها في طوايا النفوس، ومن مات له عزيز فهو هو الواقع في غمرة الموت يمشي في عالم الحياة بجيش من الجرحى والهالكين، والحياة بحذافيرها ما هي، أليست عادة واحدة كبيرة؟ أليست جملة عادات تجمعت في بنية واحدة؟ لقد كان المتنبي بصيرا ملهما حين قال:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنف
Unknown page