ومادام أن بي حاجة إلى الكتب لتسد لي النقص في تجاربي فمالي لا أجعل هذه الكتب معولي كله ومعتمدي في التجريب؟
إن الغرض من التجريب العاطفة والمعرفة، وليس أقدر من الكتب على إثارة تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكا للنفس وتجعلها - أي النفس - أتم استعدادا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فبحسبي «ظاهر» التجريب الذي تهيئه لي القراءة، وسواء على كل حال أن تؤثر في المرء الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريق آخر كالرموز اللفظية التي تمثل صفات هذه الحقيقة وتصور وقعها.
كذلك كنت، فما أغرب ما حدث! لست أحمل الآن الكتب معي حيث ما أكون ولا أنا أغالي بقيمتها أو أستغني بها عن حقيقة التجريب الشخصي، فقد ظلت الحياة تصدمني وترجني وتدفع في وجهي وصدري حتى ردتني إليها وفتحت عيني على مظاهرها، ثم أفقت من دهشتي وأجلت بصري في نفسي وفي الدنيا ثم ذهبت أتساءل: كيف حدث هذا؟ لقد كانت قدمي ثابتة وأنا أقطع طريقي في الحياة، ولم يكن يخالجني شك في دقة علمي بالطريق وكفاية إحاطتي بطبيعته فمن أين جاءت هذه الزحاليق؟ ماذا جرى حتى رحت أتدحرج وتتلقفني الصخور؟؟
وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية وأن أبسط تحت عيني المصور الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب وإذا المصور تتداخل دروبه ومسالكه وتختلط حتى لا سبيل إلى التمييز بينها. وإذا «ظاهر» التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين ومازلت في مبلغ علمي بالدنيا وفهمي للحياة وإدراكي لحقائقها، طفلا يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاما.
وأنا الآن أعلم نفسي من جديد، وأعالج تنشئة ابني معي. كلانا طفل يتخبط ويجرب، وكل ما بيني وبينه من الفرق أن ورائي تجربة مرة لا تنفك تزجرني عن الكرة إلى مثل ما أوقع فيها، وأن ذهنه جديد لم يزحمه شيء وأن نفسه صافية لا يشوبها رنق ولا كدر؟ ووالله ما أدري وأنا أسير معه في الحياة - ويده في يدي - أينا الذي يسير بصاحبه أو أينا الذي يأخذ بيد رفيقه.
وكثيرا ما يخيل لي إذ أراه مقبلا علي في الطريق وفي يسراه حقيبته التي يحمل فيها كتبه وكراساته، كأنه يعالج أن يحل مسألة حسابية أو يتذكر حقيقة جغرافية فأصافحه وأقول له: «فيم كنت تفكر؟»
فيقول: «لا شيء» فأقول له: «ليت هذا يكون صحيحا. وماذا أبصرت في الطريق؟»
فيكرر كلمة «لا شيء» فأدعوه أن يرجع معي ويرافقني مسافة، وأحمل عنه الحقيبة تخفيفا عنه وإنصافا له، وأروح ألفته إلى أن الناس لا يحسنون السير في الطريق. وأبين له بعبارة يسهل عليه فهمها أن أكثر من نرى في الطريق من عابريه تبدو عليهم مظاهر القلق والعجلة. حتى الذين لا يدعوهم شيء إلى العجلة ولا موجب لاضطرابهم أو قلقهم، كأنما يعديهم سواهم بذلك، وهناك آخرون يجتلي المرء في وجوههم ضربا من الكسل المرذول والفتور الثقيل لا يدلان على سكون النفس ولا ينمان عن استقرار واطمئنان. فهذان طرفان متناقضان تؤدي إليهما حالة نفسية واحدة. كلا الفريقين مضطرب، ولكن واحدا يجعله اضطرابه كالذي يساق في حياته بالسياط، والآخر يفتره الاضطراب ويرخي أعصابه.
وهذا الرجل الذي يتهادى ويختال في مشيته ويدق الأرض بعصاه ولا يفتأ يرفع يسراه إلى ربطة رقبته ليثبت «الدبوس» في الظاهر وليلفتنا إلى بريق الزجاج الذي يريد أن يوهمنا أنه ماسة كريمة، والذي يتظاهر بعدم الاكتراث لأحد، لا يزال مع ذلك ينظر إلى الناس خلسة - تأمله.. ألست تحس أن تحت قناع السكون وقلة المبالاة حمى قلق تشي بها اختلاجات جفونه وشفتيه وجانبي منخريه؟ أتعلم ماذا هو؟ إنه سمسار. وهو لا يتمشى وإنما هو يتحفز! يتحفز للوثوب على فريسة.
ولست أعرف ظاهرة للمدينة الحاضرة أبرز من هذا القلق أو إذا شئت فقل من افتقار عناصرها المكونة لها، إلى السكون، فالناس يذهبون إلى المسارح ويخرجون منها، ويدخلون المدارس وينصرفون عنها. ويزاولون أعمالهم ثم يكفون - وكأنهم جميعا معجلون، وتراهم يؤثرون الركوب ويفضلون أن يخطفوا بسياراتهم، لأن الركوب أسرع من المشي، ولأن الوقت ضيق. فلماذا هو ضيق؟ يجب أن نعده واسعا غير ضيق. وأن نشعر أنفسنا هذه السعة وأن نقنع عقولنا بانتفاء الضيق لتستقر أعصابنا وتهدأ وليتيسر لنا بعد ذلك أن نجود عملنا وأن نخرجه ناضجا. إن فكرة ضيق الوقت وهم ليس إلا، وهي تؤثر في أعصابنا وتفسدها، وما على الإنسان إلا أن ينحي عن نفسه خاطر الزمن وإلا أن ينسى هذا الوقت وثق أن عمله حينئذ يكون أسره وأجود، لأن رأسه في هذه الحالة يكون خاليا من التفكير في وجوب العجلة فلا يعود يزعجه شيء، فيطرد الفكر ويستقيم وتتسق الخواطر.
Unknown page