Sabi Fi Wajh Qamr
الصبي في وجه القمر: رحلة استكشاف أب لحياة ابنه المعاق
Genres
idiot
الإنجليزية التي تعني «أبله»، والتي كانت لحوالي عشرين قرنا، وحتى أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين في أمريكا الشمالية؛ مصطلحا مقبولا يطلق على الشخص المصاب بإعاقات عقلية شديدة منذ الميلاد، في مقابل الكلمة
imbecile «مخبول» التي تشير إلى الشخص المولود بصورة طبيعية، ولكنه أصيب بإعاقة عقلية بعد ذلك، والذي قد يشفى من مرضه. وكان لدى ووكر صفات تؤهله أن يكون «أبله»: صحيح أنه كان ظاهرا للناس، وشارك في تربيته جماعة من الناس، لكنه كان مخفيا ولا سبيل لمعرفة ما عنده أيضا؛ لذا فهو منعزل. قدمت المسيحية فكرة أن شخصا مثل ووكر يكون أقرب للرب: «وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم» (لوقا 9: 46). ولكن شجعت الكنيسة المسيحية أيضا فكرة أن المعاقين والمجانين سحرة، أو يسيطر عليهم الشيطان، أو هم شكل من أشكال العقاب لخطايا آبائهم. ويشير قانون الفقراء في بريطانيا لعامي 1563 و1601 إلى أنه على الدولة رعاية المعاقين، ولكن في القرن التاسع عشر كان المعاق أو المتأخر عقليا أفضل حالا فقط عند وجوده وسط أسرة ثرية ومحبة له وفي منزل كبير. لا يزال هذا الوضع قائما، حتى في مناطق كثيرة من أمريكا الشمالية اليوم.
كان الكثير يعتمد على المكان الذي يعيش فيه. كره مارتن لوثر - الغريب السالف الذكر - المعاقين ونبذهم بوصفهم أقارب الشيطان، ولكن في فرانكفورت كان يعين للمعاقين عقليا مرافقون، وفي نورمبرج (على الأقل في فترة ما ) كان يسمح للمعاقين بالتجول في الشوارع دون أن يمسهم أحد، وأن يطعمهم الجيران ويرعوهم. واتخذ تيكو براهي، أول عالم فلك معاصر (وأستاذ عالم الفلك الشهير كبلر) قزما لديه تأخر عقلي كرفيق له، وكان يستمع إلى همهماته كما لو أنها وحي سماوي. ولكن في بروسيا كان المجانين عادة ما يحرقون أو يسجنون. فلم يستطع المجتمع على ما يبدو تحديد طريقة التعامل مع الإعاقة العقلية (بدأت التفرقة بين الجنون والإعاقة العقلية في مطلع القرن السادس عشر، ولكن بصورة فردية فقط): فقد كان مشهد الفوضى الإنسانية لافتا للنظر، ولكنه مرعب للغاية أيضا حين نشاهده لمدة طويلة، والنتيجة - كما يؤكدها ميشيل فوكو في كتابه الرائع والمثير للجدل «تاريخ الجنون» - هي قمع الجنون بل أيضا فكرة الجنون، بابتكار وسيلة العزل، والعزل طريقة لاحتواء المشكلة، وجعلها تحت سيطرتنا وبعيدة عن الأنظار. ما زلنا ننظم ونصنف و«نحل» الإعاقة العقلية منذ بداية عصر العقل على الأقل؛ حين قرر ديكارت أنه موجود فقط لأن عقله قادر على التفكير والاعتقاد بأنه موجود. ولكن في سياق جعل المشكلة تبدو كأنها تختفي بالتظاهر باحتوائها وحلها، فقد نجح المجتمع في احتواء خوفه من الإعاقة وحصره، رعبنا من إمكانية التفاعل البدني معها. وكان يعد الجنون والتأخر العقلي الشديد وأيضا الفدامة حالات وجودية؛ فكان ينظر إلى الجنون على أنه نظير للعقل، ولكن ليس كمرض يحتاج إلى علاج؛ فالجنون، كما يقول فوكو، «لا يتعلق بالحقيقة في العالم، ولكنه يتعلق بالإنسان والحقيقة المتعلقة بنفسه التي يمكنه إدراكها.» فووكر أراني ما لم أكن أريد أن أراه - حاجاته العديدة، ليس فقط حدود إمكانياتي، ولكن أيضا القدرات الكامنة فيها والعطف - وأيضا ما لم أكن أراه لولاه؛ كقدرته على جعل أية لحظة تمر بنا ذكرى لا تنسى، وقدرتي على تقدير أهميتها. لا يريد أحد منا أن يكون مجنونا، ولكن هناك أهداف عديدة لوجود حالات الجنون في حياتنا، بوصفها طريقا للتأمل الذاتي الصعب. ففي عالم ما قبل العلم، عصر شكسبير وسرفانتس، حين كان لكل من الفن والخيمياء والمنطق والوحي السماوي والخبرة نفس المكانة، كان الجنون كرمح مباشر في ظلام الوجود الإنساني. الإنسان الذي ولد للألم والحزن، فقط ليواجه ... الموت! ماذا كان يمكن أن يعني كابوس الوجود؟ وحتى تأمل الغرض منه كان يتطلب رؤية خاصة ووجهة نظر عميقة، فالجنون والمرض العقلي كانا كسيارات مسرعة عبر هذا النفق، وكان عدم الاتزان العقلي مبررا حتى تكون غريبا، وتفكر بطريقة غير تقليدية؛ فقد كان يسمح للحمقى في مسرحيات شكسبير، أو المجانين في سفينة الحمقى، بالحديث عما يدور في عقولهم وبإظهار تفاهة أهداف حياتنا اليومية وحالات الإنكار الصريحة التي نعيش فيها في حياتنا اليومية؛ فهم لا يستطيعون إخفاء ذلك لأنهم متخلفون عقليا. وفي أوروبا في العصور الوسطى أجبر المجانين الهائمون على وجوههم على العيش خارج أسوار المدن، ولكنهم كانوا يدعون من آن لآخر لتسلية السكان؛ لكي يكشفوا عن شكل حياة المواطنين. هناك أوقات كنت أتأمل فيها دار رعاية ووكر الموجودة في ضواحي المدينة التي أعيش فيها، وأقول في نفسي: الأمر ليس مختلفا جدا.
لكن المجانين والمتأخرين عقليا كانوا يتحدون النظام الاجتماعي، كما يؤكد فوكو، وقيمهم المجتمع بناء على ذلك (وهو ما يعني أنه يمكن «فهمهم») ثم قمعهم («تعامل معهم» وعزلهم). أحيانا كانت تحيرني رؤية فوكو للتاريخ والحضارة بوصفهما محركين للقمع الإنساني، وعادة ما كنت أرى فيها مبالغة كبيرة، ولكني فهمت وجهة نظره أخيرا: فإذا حصلت على إشباع كبير من مجرد وجودي مع ووكر، من مجرد إجباري على أن أكون كما أنا، سأسهم بشكل أقل في السباق المحموم للرأسمالية الغربية التي تقوم على قيم اتباع القطيع والنجاح بأي ثمن، والسير وفق معايير الآخرين، والتركيز على تحقيق النتائج الذي أدى، على سبيل المثال، إلى الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ويؤكد فوكو أننا نفضل الوضع الراهن؛ لذا نسعى إلى «علاج» أو «مواجهة» الجنون.
بحلول أواخر القرن السادس عشر وضع توصيف كمي للإعاقة العقلية لأول مرة: فالشخص الأبله هو من كان لا يستطيع عد عشرين بنسا، ولا يعرف أمه أو أباه، ولا يعقل مصلحته. وفي عام 1801، وضع فيليب بينيل، الأب الروحي للطب النفسي، الأسس الخاصة بالتعامل مع المعاقين عقليا؛ فحيث إنه لم يكن هناك أمل كبير في علاج المتخلفين عقليا، وجب الوفاء بمتطلباتهم الجسدية، وهذا أقل ما يقدمه المجتمع لهم. (من بين 31951 طفلا دخلوا دار إيواء الأطفال اللقطاء بباريس من عام 1771 إلى 1777، حوالي 25 ألفا، أو 80 في المائة منهم، ماتوا خلال عام.) ولم يكن بينيل تقليديا؛ إذ فضل العمل في مجال الطب على العمل في الكنيسة، بعدما أصيب صديق حميم له بالجنون، بيد أن رغبته في مساعدة الأفراد المختلين عقليا من خلال محاولة تفسير سلوكهم وتنظيم أحوالهم والسيطرة على تصرفاتهم أدت أيضا إلى بعض من أكثر الظروف غير الإنسانية في تاريخ أوروبا. ففي سالباتير، المصحة العقلية المشهورة في باريس التي كان يديرها بينيل، كانت تلبس خمسة آلاف امرأة سترات فضفاضة مصنوعة من الخيش، وتنام كل خمس منهن في سرير واحد، وكان طعامهن اليومي عبارة عن قدح من العصيدة وأوقية من اللحم وثلاث شرائح من الخبز، وكان يعيش ما يزيد على ألف شخص «ضعيفي العقل» في جناح واحد بمفردهم. وفي بيكاتر، وهي مصحة عقلية أخرى في باريس لكنها أكثر فظاعة، كان يشرف عليها بينيل أيضا، كان يعيش المجرمون جنبا إلى جنب مع المعاقين عقليا، وغالبا ما كان يقدم لهم الطعام، بحكم الضرورة، والسلاح في وجوههم. غير أن هذه الرؤية في التعامل مع الجنون طمأنت الأوروبيين، بنفس الطريقة التي طمأن بها إنشاء السجون كثيرا من الناخبين الأمريكيين خلال السنوات الثلاثين الماضية، بأن مجتمعهم منظم وآمن وعادل، وأصبح عزل المعاقين عقليا هو الشائع؛ فقضى واحد من كل مائة مواطن من مواطني باريس بعض الوقت في مصحة عقلية.
لم يتوقف الأمر على بينيل في فرنسا، فبحلول عام 1890 زاد عدد الأفراد في المصحات العقلية الأوروبية إلى أكثر من الضعف. يقول فوكو: «ظهر حد فاصل جديد مما جعل التجربة التي كانت مألوفة جدا في عصر النهضة - العقل غير المعقول، أو الجنون العاقل - مستحيلة.» أنا لا أرغب في تصوير الإعاقة العقلية بطريقة رومانسية، ولكني أدرك ما يعنيه هذا الجمع بين الكلمات المتناقضة؛ فهو طريقة لمحاولة فهم ووكر ونفسي، بالاستماع إلى ولد لا يستطيع الكلام، بالسير وراء ولد ليس له اتجاه معروف.
بدأت تبزغ ببطء رؤية بديلة للإعاقة تتعارض مع رؤية المؤسسات العاقلة التي كانت تقوم على العزل والبيروقراطية والرغبة في السيطرة على المعاقين عقليا. ففي إيطاليا، منع فينتشنزو كياروجي استخدام السلاسل مع نزلاء المصحات العقلية قبل أن يفعل ذلك بينيل بما يقرب من عقد، وكتب كياروجي يقول: «احترام الفرد المصاب بالجنون بوصفه إنسانا يعد التزاما طبيا وواجبا أخلاقيا ساميا.» والسعي من أجل تحقيق هذا - معاملة المعاقين عقليا بوصفهم أفرادا، متساوين مع بقية أعضاء المجتمع ومساهمين فيه مثلهم، بغض النظر عن قلة أو دقة إسهامهم، وعن عدم رغبتنا في فهم ماهية ذلك الإسهام - هو السعي الذي لم يكتمل في تاريخ الإعاقة العقلية. لا ينكر أحد التقدم الكبير الذي يتم إحرازه؛ فقد شهدت المائة والخمسون عاما الماضية وحدها تحسنا كبيرا في النواحي المادية لحياة أناس مثل ووكر. فباستير وليستر ونظرية جرثومية المرض، وماري كوري وأشعة إكس، وفيركو وخلاياه، ودراسات جريجور مندل عن الوراثة، وداروين ونظرية التطور، وفرويد والعقل الباطن، وحتى علم الجينات؛ أسهم كل هذا في فهم المعاقين عقليا، كما فعل التعليم العام والتعديلات القانونية الحديثة حول حق المعاقين في توفير حياة كريمة لهم. بيد أننا ما زلنا نرى أن «النتائج» هي المقياس الوحيد المؤكد للنجاح الإنساني، وما زلنا نرتكب الأخطاء حتى نحافظ على وهم أننا نحقق نتائج. ففي وقت قريب، عام 1964، اشترى جان فانيه بيتا صغيرا لرجلين من المعاقين عقليا لأن الظروف في المصحات العقلية (في فرنسا، وهذا هو الغريب) أصابته بالانزعاج. ومنذ عام فقط قابلت ليندا بروسين على الغداء في أحد الأيام في تورونتو، وشرحت لي كيف أن أختها كارولين المتأخرة بدنيا وعقليا والتي في الثلاثينيات من عمرها، لا تزال تعيش في البيت مع والديها، اللذين يبلغان من العمر الآن أربعة وستين عاما، ولا يزالان يسعيان من أجل إيجاد طريقة تحيا من خلالها كارولين حياة سعيدة من دونهما . وبالنسبة إلى والدي بروسين، فإن الترتيب لمشاهدة فيلم في السينما في ليلة الجمعة يعد أمرا معقدا مثل التخطيط للذهاب في إجازة لمدة أسبوعين.
قالت بروسين: «النموذج المطروح الآن يقوم على فكرة الدمج، والفكرة تشير إلى دمج المعاق في المجتمع، ولكن سيتوقف هذا عند حد معين؛ لأن أختي لن تكون قادرة أبدا على أن تكون جزءا من المجتمع. على سبيل المثال، من الواضح جدا أنها مختلفة من الناحية البدنية، فإذا أخذتها إلى صالون تصفيف الشعر، فسينظر إليها الناس نظرات استغراب، فهل هذا عادل بالنسبة إليها؟ أليس من المعقول أن نتوقع لها أن تحصل على قصة الشعر التي تريدها دون تلك النظرات الغريبة؟» قضينا ثمانية عشر عاما في محاولة دمج أشخاص مثل ووكر في المدارس العامة، ثم في سن الثامنة عشرة، حين يصلون إلى نهاية المرحلة الثانوية، نخرجهم إلى مجتمع لا يعرف شيئا عن الدمج. سينجو ووكر من هذا المصير؛ لأنه ليس صالحا من الأساس «للدمج» في المجتمع.
هذه الأخطاء كثيرة، وما زالت الخدمات الطبية المخصصة للمعاقين قليلة في مدينة ساسكتون بساسكاتشوان، حتى إنه كان على جوليا وودزورث، البالغة من العمر عشرين عاما والمصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد والتي تعيش مع أمها بام وأبيها إريك؛ الانتظار مدة «ثلاث سنوات» لتحديد موعد مع عيادة الأسنان لعلاج أسنانها. قالت بام وودزورث: «أشعر في كل مرحلة من مراحل حياة جوليا كأن علينا أن نكون نحن الرواد، ولكني لم ألحظ تطورا حقيقيا في بعض الخيارات الخاصة بالمعاقين.» تبعد ساسكتون مائة ميل فقط شرق ويلكي بساسكاتشوان، حيث خنق روبرت لاتمير عام 1993 ابنته تريسي، المصابة بالشلل الرباعي والبالغة من العمر اثني عشر عاما؛ لأنه لم يعد يتحمل رؤيتها وهي تعاني، وحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه قتلا من الدرجة الثانية. وقالت بام وودزورث لي في نفس اليوم الذي لم يحصل فيه لاتمير على إطلاق سراح مشروط: «إننا نتعاطف، كأسرة، كثيرا مع آل لاتمير.» (وألغي الحكم ومنح إطلاق سراح مشروطا بعد شهور .) وأضافت: «السؤال الكبير الذي ما زال يدور في ذهني هو: لماذا لا تحاكم مقاطعتنا؟ ما فعله هذا الأب كان بسبب شعوره باليأس، فتلك الأسرة لم تكن تحصل على الدعم المطلوب. أعتقد أننا جميعا، بصفتنا أعضاء في مجتمع مدني، قد ساهمنا في موت تريسي.»
Unknown page