فقال ببساطة: ولماذا نصدق ما يقال؟ .. الحق أنه شهم وجار أمين.
ونشأ حسين مثل أبيه في القوة والشراسة والصورة. إذا غضب ضرب، ولا يجرؤ أحد على مواجهته، ولكنه في حال الرضا كان مثال الكرم والمودة، وطالما دعانا للغداء وأتحفنا بالهدايا من الحلوى والفاكهة.
ورغم ثرائه كان تلميذا ناجحا، ويحب المطالعة والمناقشة غير أنه بدا من أول الأمر فخورا بالعرب والعروبة، معتزا بالطبقة؛ ولذلك احترم الملك وعدلي، ولم يخف استهانته بسعد زغلول. نظرته إلى الأمور من فوق إلى تحت، وهو لا يداريها أو يخفيها، يثير عاصفة من المناقشات، ولكننا أخذناه على علاته، بل آمنا بضرورة وجوده كممثل لمعارضة لا بد منها لتجديد حوارنا وإنعاشه. ولم نختلف معه في السياسة وحدها، ولكن أيضا حول المرأة والحضارة الغربية والأفكار الجديدة، ولعله كان الوحيد في شلتنا الذي يفضل الرافعي على العقاد، ولكنه اختلف أيضا مع عبد الخالق على ماشست وفانتوم، فأسفر ذلك الاختلاف عن شراسته. كان ماشست وفانتوم من أبطال الأفلام الذين يأسروننا بقوتهم وشجاعتهم. وفاز كل منهما بفريق من المتحمسين، فكان حسين مع ماشست وعبد الخالق مع فانتوم، واشتد النقاش بينهما عن ذلك حتى غضب حسين الجمحي، وإذا به يقبض على عنق عبد الخالق، ويقول: لو قبض ماشست على عنق فانتوم هكذا ، فماذا يستطيع فانتوم أن يفعل؟
وضغط على عنق عبد الخالق بحنق حتى احتقن وجهه بالدم وانحبس صوته، وخلصنا بينهما وعبد الخالق يلهث. وقاطع حسين فترة طويلة حتى صالحه بدعوة خاصة إلى الغداء. وكان بيت عبد الرحيم بك يواجه سراي آل القربي مباشرة، ولكن لم يحدث أن تبادلا التحية قط. كان إحسان بك يسير كالنائم غائبا عما حوله فيستفز عبد الرحيم بك بتجاهله غير المقصود. ودأب عبد الرحيم بك، كلما مر به الآخر، أن يبصق بصوت مسموع إعرابا عن ازدرائه واستيائه، فيمضي الآخر في طريقه دون أدنى التفات. وتوقعنا أن تحدث أمور أخطر من ذلك، ولكن الله سلم. واعتاد عبد الرحيم بك عند زواج أي بنت من بناته أن يقيم حفلين .. الأول في شارعنا عند كتب الكتاب، والآخر في الفيوم ليلة الدخلة. وكان الشارع كله تقريبا - طبعا لا محل لذكر القربي هنا - يدعى للحفل. وأردنا أن نسمع العالمة - ونرى الحريم - معتمدين على حداثة سننا، ولكن البك الجبار انتبه لتحركنا، واعترضنا غاضبا، وصاح بنا: يا شياطين، مكانكم في السرادق وإلا حطمت رءوسكم!
فهربنا كالفئران، وصورته المتوحشة تطاردنا، وحكيت الحكاية لأبي في اليوم التالي، فقال ضاحكا: إنه يعتبركم رجالا، وما أهمية العالمة ولديكم صالح عبد الحي في السرادق؟!
وظلت الأسرة محافظة على تقاليدها حتى اضطرتها الحرب العظمى إلى اللجوء إلى المخبأ مثل الآخرين. في ذلك الوقت كانت البنات قد تزوجن، وكان حسين قد أتم دراسته الزراعية وسافر في بعثة إلى أمريكا، ولم يبق في البيت إلا عبد الرحيم بك وحرمه. اضطر الرجل أن يجيء بها معه إلى المخبأ الذي يتساوى تحت سقفه عم فرج مع القربي بك. وكانت حرم الجمحي تجيء متلفعة بعباءة ولا يظهر من معالمها شيء. واشتدت الغارة ذات ليلة مشهورة، فتناثرت الأعصاب وصوتت النساء. وفقد عبد الرحيم بك أعصابه كذلك، واندفع يضرب سقف المخبأ بعصاه في حالة هستيرية، وصرخ في النساء بلا وعي: هس .. ستحطم عصاي رأس من أسمع صوتها!
ولم يعد يسمع إلا أصوات المتفجرات ودوي القنابل المضادة، ولم يفكر أحد في مؤاخذته أو معاتبته في تلك الليلة الليلاء.
ورجع حسين دكتورا في أوائل الحرب، وشغل وظيفة في وزارة الزراعة، وعاد إلى عهده القديم في صداقتنا وإن لم تغير الرحلة من موقفه في الحياة بصفة عامة، ظل على محافظته في كل شيء عدا ميل جديد نحو الحضارة الحديثة في مظاهرها المادية المتقدمة. وعند ذلك انتهت حياة أبيه نهاية غير متوقعة، أو غير متوقعة بالنسبة لنا. كان في زيارة للفيوم، وعلمنا عن طريق الرواة أنه زار جزارا من معارفه وجلسا سويا أمام الدكان قبيل المغرب، وكان الدكان في ميدان تتفرع منه شوارع، فلما آذنت الشمس بالمغيب وخلا الميدان من السابلة، انهال الرصاص فجأة ومن نواح متعددة وبكثرة على الرجل. وفي ثوان انتهى كل شيء؛ سقط عبد الرحيم بك قتيلا مضرجا بدمه واختفى الفاعلون. وكان للجريمة ردة فعل عنيفة في الأنفس بالنظر إلى مكانة الرجل وجبروته. وبدأ التحقيق مع الجزار ومع رجلين تصادف قربهما من موضع الحادثة، ولكن اتفقت الأقوال على أن الأمر وقع بسرعة مذهلة وأنهم لم يروا أحدا على الإطلاق. لم يسفر التحقيق عن شيء، وقيل - والله أعلم - إن الشهادة اتفقت على قول واحد رغبة في الانتقام من سفاح خطير أفلت من قبضة العدالة بلا وجه حق، بل قيل أكثر من ذلك إن الشرطة تهاونت في البحث، وكذلك النيابة لأن قلوبها كانت مع القتلة تلك المرة لا مع القانون!
وربما كان ما سمعنا مجرد أسطورة ابتدعت، فإن صح ذلك فلا شك أن بعض الأساطير تتفوق على الوقائع بصدقها وجمالها، وحزن حسين على أبيه حزنا كبيرا، وجعل يقول لنا: أود أن أنتقم لأبي، ولكن ممن؟
ويتنهد بغيظ دفين. ولما قامت ثورة يوليو تقوض بنيان عالمه كله، وأصبح بين يوم وليلة غريبا في دنياه .. وبدا أحرص مما كنت أتصور، فعرف منذ اللحظة الأولى كيف يضبط لسانه ويسيطر على انفعالاته، وتزوج من ابنة عم له، ومضى يبيع أرضه أو ما تبقى منها. وأقام في بيت العباسية وارتضى مستوى من المعيشة دون إمكانياته بكثير. وأقلع عن حديث السياسة حتى مع أخص خواصه، أصبح شخصا جديدا لا يهمه من الدنيا إلا شئون أسرته ووظيفته. لبث كذلك دهرا حتى دهمتنا الهزيمة في 5 يونيو فتعذر عليه أحيانا أن يكتم فرحه، وربما مال على محدثه، وهمس: هل سمعت آخر نكتة؟!
Unknown page