وهنا أنتقل إلى ما قلت عنه إنه نمط ثقافي معين، هو الذي يجعل العربي عربيا، فما هي عناصره في إيجاز؟ أول تلك العناصر، إحساس ديني عميق ينبض به قلب الإنسان من حيث يدري ولا يدري، وجوهر ذلك الإحساس شعور الإنسان شعورا قويا، بأن هذا الواقع الذي يعيش الناس حياتهم فوق أرضه وتحت سمائه، وراءه غيب خلقه ويخلقه، ودبره ويدبره، ونقول «وراءه» على سبيل المجاز؛ لأن ذلك الحق الذي خلق ويخلق، ودبر ويدبر، بالنسبة إلى هذا الواقع الذي هو مسرح نشاطنا، لا هو «وراء» ولا هو «أمام»، فقل عنه أيا من هذه العلاقات المكانية، قل عنه إنه «فوق» الواقع الكوني أو «تحته» أو إنه مبثوث فيه، فكلها تصويرات صادقة كاذبة معا، ولا حيلة لصاحب الإحساس الديني في ذلك، إذ ليس في وسعه إلا «لغة» يحرك بها لسانه، وشتان شتان بين لفظة تنحدر بين شفتيك، وحالة وجدانية نبض بها قلبك أيا ما كانت تلك الحالة: من حب الإنسان للإنسان، صعودا إلى حب الإنسان لله، هو - إذن - هذا الإحساس الديني قد تميز به إنسان هذه الرقعة الجغرافية من كوكب الأرض، لا من حيث «النوع»، وإلا فلم تشهد الدنيا إنسانا واحدا لم يحس بفطرته مثل ذلك الإحساس، ولكن تميزنا بغزارته، وبالقدرة على التعبير عنه تعبيرا تكونت من تفصيلاته حضارة بأسرها أو عدة حضارات، كما تكونت من إشعاعاته ثقافة طويلة عريضة، أو عدة ثقافات، وإن هذا الإحساس الديني في عمومه، لهو بالنسبة إلى الديانات النوعية المتمايزة، لهو بمثابة الجذر من الشجرة تعددت فروعها وكثرت ثمارها، أفلا يلفت أنظارنا أن كل الديانات المنزلة بوحي من الله تعالى، إنما نزلت هنا على هذه المنطقة؟ أفلا يلفت أنظارنا أن الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وهي التي كان لها شأن أي شأن في أرجاء هذه المنطقة أول تاريخها، ومنها انتشرت إلى سائر بقاع الدنيا، أقول: أفلا يلفت أنظارنا أن تلك الديانات الكبرى الثلاث، قد أراد لها موحيها - جل وعلا - أن ترتبط بمصر ارتباطا خاصا؟ فموسى - عليه السلام - ولد هنا، وتعرض للخطر وهو وليد، لكنه نجا بإذن الله، وعيسى - عليه السلام - ولد في فلسطين، لكنه كذلك تعرض لخطر العدوان من أعداء ولادته، فلاذت معه أمه مريم بمصر، فنجا بإذن الله، وأن نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - فضلا عن زواجه من مارية القبطية، كان هو الذي وصف مصر بأنها كنانة الله، والكنانة هي عدة السلاح في خزائن الفرسان.
والعنصر الثاني في بنية النمط الثقافي الذي نزعم له أنه هو معنى «العروبة» في مصر وفي غير مصر، من أجزاء هذه الرقعة من الأرض، هو اللغة، فبالرغم من تعدد الفروع اللغوية في أقطار هذه المنطقة قديما، إلا أنها جميعا تشترك في طابع مميز، بما فيها لغة المصريين القدماء، وهنا ألجأ مع القارئ إلى ما أورده الدكتور أحمد قدري في مقدمته التي أسلفنا ذكرها، ففيها يشير إلى البحوث في علم أصول اللغات، وما قام به «إدوارد ماير» من تحليلات علمية للوثائق الهيروغليفية، لينتهي آخر الأمر إلى نتائج - أكدها من جاءوا بعد من علماء اللغات - كان من أهمها مشاركة اللغة المصرية القديمة مع سائر لغات المنطقة، في المفردات وفي قواعد التركيب، فهي مثلها تتميز باستخدامها لصيغة المثنى، وباستخدام تاء التأنيث، وصفة النسبة، والجذر الثلاثي للفعل، وإهمال كتابة الحروف المتحركة، وإن كاتب هذه السطور ليضع أهمية كبرى في خاصة «الجذر الثلاثي»؛ لأنه يرى فيها انعكاسا للنظم الاجتماعية في أعمق أسسها؛ وذلك لأنه كما تنبثق من «الثلاثي» مفردات أسرة لغوية بأكملها، يتجمع أبناء الأمة الواحدة، أو القبيلة، أو الأسرة، أو القرية، تحت رئاسة رجل واحد، يكون هو الفرعون، أو الملك، أو الوالد، أو شيخ القبيلة، أو عمدة القرية .
ومن الخاصتين اللتين ذكرناهما ، الإحساس الديني، واللغة في طرائق اشتقاق مفرداتها وتركيب جملها، تنتج نتائج عظيمة الأهمية في حياة الناس، وتشكيلها وتوجيهها، وحسبنا أن نذكر منها قيم الأخلاق، فهذه القيم تلزم لزوما مباشرا عن العقيدة الدينية، وعن المضمونات المعنوية المكثفة في مفردات اللغة وفي طرائق تركيبها، مما قد ذكرت بعضه في مناسبات كثيرة سابقة، وإن المصري المعاصر ليحتاج إلى تربية جديدة، توقظ فيه الوعي بتاريخه وعيا ناضجا رشيدا، لا يكفي له حفظ المذكرات ونجاح التلاميذ في الامتحان، بل هو وعي يسري في الدماء مع الدماء؛ لكي يعلم من هو، فيكون على يقين من أنه وليد حضارات اختلفت ظروفها مع متغيرات الزمن، لكنها برغم ذلك اشتركت كلها في عدد من الركائز والدعائم، هي هي الركائز والدعائم التي تميز هذه المنطقة «العربية» كلها، وإن المرء ليتساءل في هذا السياق: ترى هل كان شيء من هذا المعنى، هو الذي راود علي مبارك، حين علل ضعف الأمة الإسلامية، والأمم الشرقية عموما، بما يعيبهم من نقص ملحوظ في وعيهم بالتاريخ؟
حول مشكلة الانتماء
ذات يوم من عام بعيد، قرأت مقالا في مجلة أمريكية لكاتب ساخر جعل عنوانها: «من أنا؟»، وجاء جوابه لنفسه عن نفسه قائمة من أرقام، كأن يقول مثلا: ولدت عند تقاطع خط عرض 42 مع خط طول 63، عمري 47، طولي 175 سنتيمترا، وزني 75 كيلوجراما، أسكن رقم 19 شارع 74، بطاقتي الشخصية رقمها 3189، ورقم سيارتي 8549، ورقم حسابي في البنك 63817، وهكذا أخذ الرجل يرص أرقاما حتى ملأ المساحة الورقية التي خصصتها المجلة لمقالته، جاعلا كلمة الختام قوله: «هذا هو أنا» ...
وكان واضحا أنه إنما يسخر، لا من شخصه فقط، بل يسخر من العصر كله، من حيث تحويله للناس إلى أرقام، فمدير المصنع لا يعرف عن أي عامل في مصنعه إلا قائمة من أرقام، حتى لقد أصبح اسم الرجل مجرد رمز لا يشير إلى إنسان بذاته، يفرح ويحزن، ويصح ويمرض، وله أسرة يعولها ويحمل همومه وهمومها إذا أمسى به المساء، أو أصبح به الصباح، لا، بل هو مجموعة أرقام رصدت في «ملفه»، قد لا تعني شيئا قط إذا قرأتها زوجته، أو قرأها جاره في السكن، لكنها تعني كل شيء عن العامل بالنسبة إلى صاحب العمل، وقد يكون ذلك هو كل ما هو المطلوب عن العامل، على نحو ما يكفي إدارة التليفونات أن تعرف أرقامها مقرونة بأصحابها، أو يكفي إدارة المرور أن تعرف أرقام السيارات مقرونة بمالكيها، وغير ذلك من الدوائر التي تحصر معاملاتها مع الأرقام، لا مع ما يعانيه أصحابها أو ما ينعمون به، ونتوسع قليلا في هذه الظاهرة العددية من عصرنا، فنرى كل جوانب الحياة قد تحولت في أيدي أولي الأمر إلى إحصاءات ومتوسطات، وهذا - بالطبع - أدنى إلى الدقة، لكنه في الوقت نفسه أعمى وأصم وأبكم بالنسبة للإنسان المبين بشخصيته المفردة ذات الظروف الخاصة التي قد لا تشاركها فيها شخصية أخرى، فنسمع - مثلا - عن مواطن خطف فتاة من الطريق العام، واعتدى عليها عنوة، ثم أصابها بما أصابها، فيصرخ الرأي العام في الصحف، وهنا يجيء الرد المطمئن من أولي الأمر، بأنه لم يحدث ما يدعو إلى القلق؛ لأن أمثال هذه الحوادث لا تزيد نسبتها عن نصف في المائة من السكان، نعم، هذا صحيح من ناحية الإحصاءات والمتوسطات، لكن ماذا عن شعور الفتاة المصابة وذويها؟ إن الأمر بالنسبة إلى هؤلاء هو مائة في المائة؛ لأنه يتصل بصميم حياتهم، وربما امتد معهم الأثر ما بقي لهم من حياة.
كان الكاتب الساخر - إذن - يسخر من العصر كله في هذا الجانب المعين من جوانب الحياة فيه؛ لأنه اكتفى من حقيقة الإنسان بالسطح العددي، فسقط من حسابه ما هو وراء تلك الأعداد، على أن ذلك «الماوراء» هو عند صاحبه كل شيء يستحق أن يعاش من أجله، وإذا نحن دققنا النظر في العناصر الماورائية في حياة الإنسان، وهي العناصر التي يعيش ذلك الإنسان من أجلها ويموت من أجلها، وجدنا من أهمها انتسابه إلى فئة بعينها، أو - في واقع الأمر - إلى عدة فئات تتدرج في القيمة درجات، فلقد سأل الكاتب الساخر نفسه: من أنا؟ وأجاب بقائمة من أرقام ، وهو يعلم أنه يسخر ، لكننا إذا ألقينا السؤال نفسه على عابر طريق: من أنت؟ لجاء جوابه مختلفا كل الاختلاف، فهو بعد أن يذكر اسمه، يبين أنه ابن فلان، ووالد فلان وفلان، ويعمل كذا إلى آخر هذا الخط، وهو خط كله علاقات تربطه بأطراف مختلفة، وتلك هي نواة الانتماء، فالفرد المعين من أفراد الناس، لا يستطيع أبدا أن يكتفي بذاته هو، أي بما هو مستكن داخل جلده، في تعريف الناس بحقيقته، بل لا بد له من أجل الوفاء بذلك التعريف من ذكر الشبكة التي جاءت حياته الفردية طرفا من أطرافها، فلسنا نجاوز الحق مجاوزة بعيدة، إذا ما قلنا إن أي إنسان ما هو إلا مجموعة علاقات تربطه بعدة أطراف، منها ما هو أحياء ومنها ما هو أشياء، ومنها - وهو ذو أهمية كبرى - ما هو معان اجتمع عليها هو والآخرون الذين التقوا تحت لواء انتماء واحد.
فما هي «المعاني» الكبرى التي يجيب بها المصري: من أنت؟ وعند هذه النقطة يبدأ الإشكال، فأول الإجابة بديهي وسهل، لكن تأتي الصعوبة التي كثيرا ما يثور حولها الخلاف، عندما نريد أن نمتد بعد تلك الخطوة الأولى بضع خطوات، فأنا أقرر عن نفسي - أنا كاتب هذه السطور - أنني لم أتردد منذ الوهلة الأولى في أن أرتب خطوات الانتماء بعد مصريتي بذكر عروبتي، فإسلامي، بحيث أقول: أنا مصري، عربي، مسلم، ولم أكن أحسب أن مثل الترتيب لخطوات الانتماء يثير اعتراضا من أحد؛ وذلك - على الأقل - لأنه ترتيب يمليه المنطق، إذ هو يسير من الخاص إلى العام، فمصر جزء من الوطن العربي، وهذا الوطن العربي جزء من مجموعة أوطان يدين معظم أهلها بالإسلام، وأذكر أنني أوردت هذه الوحدات الثلاث، مرتبة هذا الترتيب، في سياق شيء مما كتبته، فجاءني خطاب من قارئ ليصحح لي خطأ هذا الترتيب، قائلا: إن الإسلام يأتي أولا في تعريف المسلم لنفسه، ثم يأتي بعد ذلك ما شاء من صفات، وكأن أخانا حسب الأمر في هذا مرهونا بأهمية الصفة في ذاتها، مستقلة عن الشخص وعناصر هويته بالنسبة لسائر أفراد المجتمع الذين يعايشونه في حياة مشتركة واحدة، فعليه يقع واجب الضريبة، وواجب التجنيد، وواجب القتال إذا نشبت حرب، وواجب التزام القانون المصري، وهكذا وهكذا، يقع عليه كل ذلك من حيث هو مواطن مصري، وقد لا ترد في شيء من هذا كله، مناسبة، يطلب فيها معرفة عقيدته الدينية ما هي؛ لأن مصريته وحدها توجب واجبات المواطن كما تحق حقوقه.
كان ذلك واضحا لي، ومع ذلك فإني أقرر أنه منذ جاءني ذلك الخطاب، وقد جاء منذ عامين على أقل تقدير، وأنا مشغول الذهن بقضية طرحتها على نفسي، وهي كيف يكون ترتيب الصفات التي منها تتكون هدية المواطن من حيث الأساس الذي قد تضاف إليه بعد ذلك فروع، لقد طالبت نفسي بألا يكون الترتيب جزافا، بل لا بد أن أقيمه على أساس يشبه الأسس العلمية؛ حتى لا يبقى أمام الناس موضع لخلاف، فهل يصدقني القارئ إذا أنبأته بأن المشكلة لم تجد لها عندي حلا مقنعا إلا منذ قريب؟ وعندما تحل أمثال هذه القضايا الفكرية، كثيرا ما يقول الناس: يا أخي إن المسألة أوضح من أن تكلفك كل هذا العناء، فهذا الذي تقوله، إنما هو مما تدركه البديهة في لمحة، فليكن ما يكون من تعليقات وردود، فالأمر الواقع هو أن النتيجة التي سأذكرها الآن، قد جاءتني بعد إمعان في الفكر، كلما وردت القضية إلى ذهني، مدة لا تقل عن عامين؛ لأنني كنت كلما رضيت عن حل ما، وجدت في الحال ما ينقضه، فلو أنني - مثلا - وضعت مصريتي قبل إسلامي لسألت نفسي: أي هاتين الصفتين أيسر في التنازل عنها، لو فرضنا - جدلا - أن جاء الظرف الحاسم الذي يطلب فيه الاختيار؟ فلم أجد عندي ذرة من التردد في أن التنازل عن مصريتي في مثل هذه الحالة، أيسر ألف مرة من التنازل عن إسلامي، ولا أظن أني أنفرد بهذا الجواب، بل هو - على الأرجح - موقف الإنسان أيا كان وطنه وأيا كانت ديانته، والذين نسمع عنهم أنهم أعلنوا عن أنفسهم تنازلا عن دين وقبولا لدين آخر، يغلب جدا أن يكون التغيير ظاهريا دون أن يمس إيمان القلوب، وإنما أعلنوا ما أعلنوه قضاء لمصلحة معينة في حياتهم العملية.
كان مثل هذا التساؤل يعترض طريقي، لكنني أعود فأجد في الموقف جوانب تقتضي هذا الترتيب أو ذاك، وإنما نشأت لي تلك الحالة المترددة، بسبب أنني لم أكن قد وقعت بعد على فيصل حاسم، فلما وجدته استقام لي الأمر، ومؤداه أن الصعوبة كلها قد نشأت من عدم التفرقة بين زاويتين يتم منهما الوصول إلى هذه النتيجة، أو تلك، وإحدى هاتين الزاويتين هي أن ننظر إلى الموضوع من خارج الذات، والزاوية الأخرى هي أن ننظر إليه من داخل الذات، أما النظرة الأولى فتقدم إلينا ترتيبا يقرره واقع الحياة الاجتماعية بكل ما تتضمنه تلك الحياة من دستور وقوانين، ونظم مختلفة، ويضاف إليها بعض التقاليد التي ارتضاها المجتمع في تنظيمه للعلاقات بين أفراده، وأما إذا نظر الفرد إلى الموضوع من ناحية ما يحسه هو في دخيلة نفسه، ماذا يحب وماذا يكره، فقد يجيء الترتيب عندئذ بعيد الاختلافات عن الترتيب الذي ينتج عن ضرورات الواقع الخارجي.
Unknown page