هذا من حيث نثرنا وشعرنا القديمان، أما القصة فالعرب هم الذين علموها الغرب، وإن لم يكتبوها كما تكتب اليوم. وبرهاني على ذلك قول الأستاذ جب أيضا، وهو اختصاصي بدراسة القصة. قال: أسمع العرب أوروبا حكايات السندباد البحري، وما إليها، فكانت خميرة للأدب الخيالي الأوروبي الجديد الذي زحزح الأدب التقليدي، وحل محله، فنشأت في أوروبا الروايات الرومنطيقية.
ويقول أيضا: إن قصة ألف ليلة وليلة التي ترجمت عام 1704 كانت أقوى عضد للأدب الخيالي؛ ففتنت أوروبا، وقلدها كتابها في قصصهم، فأشبعوا نفوس الأمة، وميول العالم، واتلدت منها قصتا روبنصن وجيلفر، وغيرهما.
ونحن كغيرنا من أمم الأرض قد مررنا في أطوار ومآزق، وقد خرجنا منها بقوة الفكر والخيال الذي لا يفتأ يعمل حتى في أدجى الظلمات، فمنذ عرف الشرق الطباعة والصحافة ألم كتابه بمقدار من القصة والأقصوصة والرواية، فترجم أحمد فارس لجريدته «الجوائب» بعض حكايات، ولما ظهرت «الجنان»، بعد عشر سنوات، شرع سليم البستاني ابن المعلم بطرس يعرب ويؤلف لها الروايات والقصص، فما خلا منها عدد منذ مولدها حتى مماتها، ومثله فعل جرجي زيدان في هلاله ناحيا نحو إسكندر ديماس في رواياته التاريخية، ومثل هؤلاء ألف صروف قصصا لمقتطفه، وكذلك فعل شيخو في مشرقه فنشر روايات شرقية مؤلفة ومعربة.
أما فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فكان ميالا إلى الفلسفة ومشاكلها، فألف لمجلته رواياته الفلسفية الاجتماعية، ثم كان إلى جانب هؤلاء كتاب كثيرون يترجمون القصص على اختلاف أشكالها وألوانها، فراجت الروايات البوليسية؛ لأن فيها مغامرات وعقدا تستثير فضول الناس حين ينتظرون النهاية، ولعل طانيوس عبده كان المترجم المجلي في هذا المضمار الأدبي.
أما الأقصوصة، وهي التي يهاجمها اليوم المبرز والمقصر، فجبران خليل جبران كان أول من حاول تأليفها وفقا لأصولها الحديثة، فأخرج مجموعته الأولى «عرائس المروج»، ثم أتبعها بالأرواح المتمردة وغيرها، فهذه الأقاصيص تمتاز بخيالها الرفيع، وبما يشيع فيها من ألوان يندر وجودها عند الكتاب الآخرين؛ لأن مؤلفها مصور، يفكر بالصور، ويكتب بالألوان لا بالحبر والورق، أما مواضيع أقاصيصه فكانت اجتماعية تحارب تقاليد يقدسها المجتمع. إن أقاصيص جبران كالواقعية في حوادثها، ولكن خيال صاحبها يخرج فكرته الاجتماعية بقالب خيالي يبعدها كثيرا عن الواقع، ولعل هذا هو عيبها الصارخ.
وبعد تلك الآونة بوقت قليل ظهرت في مصر أقاصيص لمحمد تيمور الذي مات ولما ينضج. والقصة اليوم تكاد تكون هدف كل كاتب موهوب، يلجأ إليها في تأدية أغراضه، وبث فكرته، إن كانت له فكرة. وإنني كبير الأمل بالشباب، وأرجو أن يبدعوا في هذا الفن، فتبلغ القصة والأقصوصة والرواية عندنا المستوى الذي يجب أن تبلغه أمة كان أدبها فيما مضى منارة للشعوب، كما يعترف بذلك رجال الفكر المنصفون.
لو جئت أعدد القصصيين لضاق المقام، ثم إنني أخاف أن أنسى أحدا منهم فتقوم القيامة؛ ولذلك اكتفيت بمن ذكرت من الرواد، أما الأحياء فالقراء يعرفونهم جميعا، وهم يحسنون الحكم عليهم دون أن أكون لهم مستشارا.
وبعد فلي كلمة أوجهها إلى القصصين عندنا، وهي أن اللغة ليست جمادا ساكنا، ولكنها حي نام، فيجب أن يوفق بينها وبين ضرورات التعبير التي تتغير بتغير العصور والبيئات، فالإسراف في التمسك بالأساليب اللغوية العتيقة لا يلائم قصتنا اليوم، وهو يؤدي حتما إلى تغلب الأسلوب المبتذل. فليكن إذن أسلوب القصة صحيحا، أولا، ثم قريبا من التعابير المألوفة في الحياة، والتي تدور على الألسنة. وإني أذكرهم بأن القصة العالية هي قطعة فنية لا بد لها من العنصر الشعري، فليست القصة حكاية تروى كما هي في الحياة والواقع، ولكنها تصور الواقع كما يراه الكاتب الملهم. نعم ليست القصة مقالا ولا فصلا تاريخيا، فعلينا أن نجعلها لابسة أجمل أثواب الأدب الرفيع.
ولا يعني قولنا هذا أن نجعل الحوار شعري التعبير، فللحوار لغته، وللوصف أسلوبه، وبهذين العنصرين تحيا القصة، وبدونهما لا تعيش. إن بث الحياة في أشخاص قصصنا يقتضينا هذا وذاك، فلنكن حكماء.
وقبل أن نطوي سجل هذا البحث الوعر نقول للقارئ العزيز بلسان فلوبير وتورغنيف: «لا تكتب القصة ليتسلى بها، ولكنها قطعة فنية يجب أن تكتب جيدا.»
Unknown page