بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عونك اللَّهُمَّ
بعد حمد الله الَّذِي بِهِ ترعى النِّعْمَة وتستبقى وتبغى الرَّحْمَة وتستدعي وَيُؤَدِّي الْحق وَيقْضى ويمتري الْمَزِيد ويستقضى وَالصَّلَاة على مُحَمَّد رَسُوله بإخلاص من السرائر واستغراق الِاجْتِهَاد فِي الابتهال وَالدُّعَاء للموقف الْأَعْظَم النَّبَوِيّ وَالْمقَام الأطهر الزكي بإطالة الْبَقَاء وإدامة الْعَلَاء واكبار الْقدر واغزار النَّصْر وحراسة الْحَوْزَة وحياطة الدعْوَة وتثبيت الْوَطْأَة وتوطيد الدولة فَمَا زَالَت الصَّنَائِع معروضة على أولي الْمَعْرُوف بهَا والبضائع مجلوبة إِلَى ذَوي الرَّغْبَة فِيهَا وأعلاق المضنة مزفوفة إِلَى أكفائها وخطابها وموقوفة على أوليائها من طلابها وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالعلوم أَعلَى البضائع قدرا وأوفى البضائع ربحا وَأقوى الذرائع حبلًا وأوضح المسالك سبلا وأعلق الْأَسْبَاب بالقلوب وأوسع الْأَبْوَاب إِلَى الْقبُول بذلك حكم الْعقل وَجرى الْعرف وَوَقع الْإِجْمَاع وَزَالَ الْخلف وَلما تَأَمَّلت أهل الزَّمَان مِمَّن رمقته الْعُيُون بنواظرها وعلقته الظنون بخواطرها وقدمته المآثر بتكاثرها وميزته المفاخر بتكاملها وَوجدت سيدنَا ومولانا الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله لَا زَالَ جده صاعدا وسعده طالعا وعزه راهنا
1 / 3
وسلطانه قاهرا الإِمَام الْمُقدم غير مدافع وَخَلِيفَة الله الْمُعظم غير مُنَازع وَأجل من رام أمدا فملكه وَرمى غَرضا فأدركه وَجرى لبلوغ غَايَة فحازها وسعى لإحراز نِهَايَة فجازها وَصَارَ بذلك أولى من نصت عَلَيْهِ الرِّجَال بالتفضيل ونصت إِلَيْهِ الرّحال بالتأميل وَأثْنى عَلَيْهِ المثنون فعجزوا عَن تَحْدِيد صفته وقرظه المقرظون فقصروا عَن تَحْصِيل حَقِيقَته وَمَا كَانَ الله ليجعل رسالاته إِلَّا بِحَيْثُ هُوَ أعرف وَأعلم ويولي نعْمَته إِلَّا من كَانَ بهَا أنهض وأقوم وَيُؤْتى خِلَافَته إِلَّا من كَانَ عَلَيْهَا أقوى وأقدر وَيُعْطى كرامته إِلَّا من كَانَ بهَا أَحْرَى وأجدر ليعلم ان أَفعاله تبَارك اسْمه وَاقعَة على الْعدْل وَالصِّحَّة وَجَارِيَة على الْحِكْمَة والمصلحة وان من أثبت ذَلِك قَاعِدَة على التدبر وأفضله عَائِدَة على التبين ان جعل استكفاءه من استكفاءه من عرض بريته واصطفاءه من اصطفاه من بَيت نبوته أولي النَّهْي والحجى وَذَوي الدّين والتقى لتَكون الْحَيَاة باختيارهم مقرونة والسيرة لِمَكَانِهِمْ مَأْمُونَة والاستقامة بتدبيرهم وعَلى أَيْديهم مَوْجُودَة والسلامة فِي مبادئهم وعواقبهم مرجوة وَالدّين بمحافظتهم محوطا وَالْأَمر بملاحظتهم مضبوطا فَالْحَمْد لله على ان جمع للحضرة المقدسة لَا زَالَت بالنصر مكنوفة وبعين الله مكلوءة شرف الْقَدِيم والْحَدِيث وكرم التليد والطريف حَتَّى اتَّصَلت الْأَوَاخِر بالمبادي واطردت الإعجاز على الهوادي وَطَابَتْ الْأُصُول والفصول وزكت الْعُرُوق وَالْفُرُوع فان امْرَءًا كَانَ من شَجَرَة النُّبُوَّة منزعة وَفِي بحبوحة الْإِمَامَة متربعة وَمن أسرة النُّبُوَّة مخرجة وَفِي بَيت الْخلَافَة مدرجة لحقيق ان يكون خَليفَة لله طَاهِرا نقيا وأمينا على دينه برا تقيًا وراعيًا لخلقة مخلصا ناصحا وَقَائِمًا بِحقِّهِ مُسْتقِلّا ناهضا وملجأ للعائذين دافعا حَافِظًا وموئلا للائذين مَانِعا عَاصِمًا وخليق ان يكون لرضى الله حائزا وبالزلفى لَدَيْهِ فائزًا وبالنعمى
1 / 4
مِنْهُ مغمورا وبالحسنى مشمولا وان تكون الموهبة من كَامِلَة وبنزول الرَّحْمَة كافلة والصدور بموالاته مترعة والألسن بالثناء عَلَيْهِ مجتمعة وَالْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ لَهُ مُرْتَفعَة وَالله يُجيب فِيهِ أفضل ذَلِك مستمعا ومقبولا وأخلصة مُعْتَقدًا ومقولا ويحرس على الدّين وَالدُّنْيَا محاسنه الزاهرة ومناقبه الباهرة وَمَا مده عَلَيْهِمَا من ظلّ دولته وأجراه لَهما من بَرَكَات إيالته حَتَّى يمْلَأ الْخَافِقين عدلا شَائِعا كَمَا ملأهما فضلا بارعًا ويعم المشرقين فعلا جميلا كَمَا عَمهمَا طولا جزيلًا انه على مَا يَشَاء قدير وَبِحسن الْإِجَابَة جدير.
وَلما كَانَت الْخلَافَة من النُّبُوَّة وَكَانَ لَهَا من جلالة الْقدر وفخامة الْأَمر أَعْلَاهَا مراقب وَأَشْرَفهَا مَرَاتِب وَمن أس الإعمال وقوانين الْأَفْعَال أوضحها معالم وأثبتها دعائم وَمن شُرُوط المكاتبات ورسوم الترتيبات أحْسنهَا طرائق وأحكمها وثائق وَمن حُقُوق الْخدمَة وحدود الحشمة أولاها بأولي الْعقل والمسكة وَذَوي الحزم والحنكة وأحراها بِأَن يتداول ويتفاوض ويتناقل ليَكُون تذكرة للناسي وتبصرة للناشي وطريقا إِلَى معرفَة مَا عظمه الله من شَأْن الدعْوَة الهاشمية وأعزه من سُلْطَان الْإِمَامَة العباسية فَوجدت أَكثر ذَلِك قد درس بتقادم عهوده وَتغَير وضوعه وَلَيْسَ كل من مر على عهد اخْتَار أخباره أَو أَمر شَاهده فألفه ووجدتني قد سَمِعت من إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي فِيهِ مَا لم يكن بَقِي فِي وقته من يُشَارِكهُ فِي كثير من علمه وَعلل مَا وَقع الِاصْطِلَاح
1 / 5
عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا بَقِي الْآن من يشاركني فِي إِسْنَاده وَرِوَايَته عَنهُ وَخفت ان تلْحق هَذِه الْبَقِيَّة بِتِلْكَ المواضي المنسية وَرَأَيْت حُقُوق النِّعْمَة الَّتِي غمرتني وغمرت أسلافي للدولة العباسية ثَبت الله أَرْكَانهَا تَقْتَضِي الْعِنَايَة بهَا ان انشر أَعْلَام سننها الْقَدِيمَة وأوضح آثَار سَيرهَا القويمة جمعت من ذَلِك مَا ضبطته بالتأليف، وحفظته بالتصنيف وَجَعَلته من القربات الَّتِي أراعي الفرص فِيهَا وأحافظ على مَا وفر الْحَظ مِنْهَا وَأَرْجُو ان يَقع الْخَادِم مِمَّا اعْتمد وَفعل الْموقع الَّذِي لحظيه بِمَا رجا وأمل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وسأورد مَا أوردهُ أبوابا أبين فِيهَا مَا كَانَت الْأُمُور جَارِيَة عَلَيْهِ وَمَا تأدت وآلت على الْأَيَّام إِلَيْهِ ليعرف من ذَلِك السالف والانف والمتبع والمبتدع.
1 / 6
وأبدأ بِذكر أَحْوَال الدَّار العزيزة
كَانَت دَارا عَظِيمَة السعَة وعَلى أَضْعَاف مَا هِيَ عَلَيْهِ الان من هَذِه الْبَقِيَّة الرائعة وَدَلِيل ذَلِك انها كَانَت مُتَّصِلَة بالحير والثريا ومسافة مَا بَينهمَا الْيَوْم بعيدَة وَإِنَّمَا انفصلا عَنْهَا وَطَالَ مداهما مِنْهَا بِمَا أَتَى عَلَيْهِ الْحَرِيق وَالْهدم من الدّور والمنازل والبنيان والعمران فِي الْفِتْنَة عِنْد خلع المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَعوده وَالْقَبْض على القاهر بِاللَّه وَقتل المكنى أَبَا الهيجاء بن حمدَان وَمَا بعْدهَا من الْفِتَن المترادفة بِالْأَيْدِي المتخالفة فَإِن ذَلِك اسْتهْلك الشّطْر الْأَكْبَر مِنْهَا وَمن بعض أمورها ان كَانَ فِيهَا مزارع وأكره وعوامل
1 / 7
برسمها وَأَرْبَعمِائَة حمام لمن تحويه من أَهلهَا وحواشيها فَأَما فِي أَيَّام المكتفى بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِنَّهَا اشْتَمَلت على عشْرين ألف غُلَام دارية وَعشرَة آلَاف خَادِم سُودًا وصقالبة وَأما فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ فالإجماع وَاقع على انه كَانَ فِيهَا أحد عشر ألف خَادِم مِنْهُم سَبْعَة سُودًا وَأَرْبَعَة صقالبة بيضًا وَأَرْبَعَة آلَاف امْرَأَة بَين حرَّة ومملوكة وألوف من الغلمان الحجرية وَكَانَت النّوبَة مِمَّن يرسم بِحِفْظ الدَّار من الرجالة المصافية خَمْسَة آلَاف رجل وَمن الحراس أَربع مائَة حارس وَمن الفراشين ثَمَانمِائَة
1 / 8
فرَاش وَكَانَت شحنة الْبَلَد برسم نازوك صَاحب المعونة أَرْبَعَة عشر ألف فَارس وراجل.
حِكَايَة
وَحدث الْحُسَيْن بن هَارُون الضَّبِّيّ القَاضِي قَالَ: حَدثنِي مَنْصُور بن الْقَاسِم القنائي قَالَ: كَانَ من عادتي فِي أَيَّام الأعياد ان أغلس فِي الرّكُوب إِلَى دَار عَليّ بن عِيسَى الْوَزير على مَا يَقْتَضِيهِ اختصاصي بِهِ لأركب مَعَه إِلَى الْمصلى وَمِنْه إِلَى دَار السُّلْطَان
1 / 9
ثمَّ أَعُود فِي صحبته إِلَى دَاره وأجلس بَين يَدَيْهِ إِلَى ان يتقوض موكبه وأحضر طَعَامه فأتفق فِي يَوْم من أَيَّام الأعياد ان تصبحت قَلِيلا ثمَّ ركبت مسرعا وصادف خروجي من بعض الدروب اجتياز نازوك فِي موكبه وَبَين يَدَيْهِ أَكثر من خمس مائَة فرَاش بالشموع الموكبية سوى أَصْحَاب النفط وهم عدد أَكثر فَاحْتَجت ان أَقف إِلَى ان يعبروا فازددت تصبحا ووافيت إِلَى دَار الْوَزير وَكَانَ قد ركب وتبعته إِلَى الْمصلى فَلم أتمكن من خدمته لِكَثْرَة من مَعَه وَلَحِقتهُ إِلَى دَار السُّلْطَان فَكَانَت الصُّورَة وَاحِدَة فِي ذَاك وَجئْت مَعَه إِلَيّ دَاره فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: وَلم أوحشتنا الْيَوْم يَا أَبَا الْفرج فشرحت لَهُ صُورَتي وَمَا عاقني من اجتياز موكب نازوك فَلَمَّا فرغت من قولي نَدِمت على تعظيمي من أَمر نازوك مَا عَظمته لِأَن الْوَزير كَانَ متنكرا عَلَيْهِ وَغير جميل الرَّأْي فِيهِ وَمن عَادَته أَيْضا كَرَاهِيَة هَذَا البذخ والتخرق لما كَانَ عَلَيْهِ من التشدد والتصعب وَخفت ان يتَّصل الْمجْلس بنازوك فيحمله مني على السّعَايَة بِهِ وَبعث الْوَزير عَلَيْهِ وَبينا انا مُتَرَدّد فِي الْفِكر وَسُوء الظَّن دخل نازوك فَقبل يَد الْوَزير ووقف فَقَالَ لَهُ الْوَزير: مد الله فِي عمرك يَا أَبَا مَنْصُور وَكثر فِي أَوْلِيَاء الدولة مثلك فَإِن أَبَا الْفرج عرفني من ركبتك الْيَوْم مَا جملت بِهِ الدولة وَالْإِسْلَام وأرغمت فِيهِ انوف أهل الْكفْر والعناد فَبَارك الله فِيك وَأحسن عَن السُّلْطَان جزاءك فَلم يبْق من شُيُوخ دولته وحاشيته من يجْرِي مجراك امْضِ إِلَى دَارك وَلَا تقف واجلس هُنَاكَ حَتَّى يهنئك النَّاس قَالَ مَنْصُور بن الْقَاسِم: فسررت بذلك سُرُورًا شَدِيدا وَصَارَ غمي فَرحا وانزعاجي سكونا ونهض الْوَزير من مَجْلِسه وَخرجت فَوجدت
1 / 10
نازوك جَالِسا فِي حجرَة الْحجاب ينتظرني فَلَمَّا رَآنِي نَهَضَ عَن كرسيه وتلقاني وَقبل بَين عَيْني وَقَالَ لي: قد ملكت رقي وَمَا أوليتك مَا يَدْعُو إِلَى مَا فعلته من جميل النِّيَابَة عني وَعقد الْمِنَّة الجليلة عَليّ فانني مَا أملت قطّ ان أسمع من الْوَزير بعض مَا سمعته الْيَوْم وسألني ان أَصْحَبهُ إِلَى دَاره فأعلمته عادتي فِي حُضُور طَعَام الْوَزير وأنني انكفىء مِنْهُ إِلَيْهِ وَركبت وعدت وَجَلَست مَعَ الْوَزير على الْمَائِدَة وجددت إِجْرَاء ذكره فجدد اطراءه فوصفه وَخرجت فَإِذا رسل نازوك على الْبَاب يراعونني وينتظرونني وصرت مَعَهم إِلَيْهِ فتلقاني واستأنفت الْأكل عِنْده وانتقلت إِلَى مجْلِس للأنس فَلَمَّا عزمت على الإنصراف حمل معي مَا قدره ألف دِينَار من كل شَيْء.
وَلَقَد ورد رَسُول لصَاحب الرّوم فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ ففرشت الدَّار بالفروش الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الْحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أَبْوَابهَا وَفِي دهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها ووقف الْجند على اخْتِلَاف أجيالهم صفّين بالثياب الْحَسَنَة وتحتهم الدَّوَابّ بالمراكب الذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَين أَيْديهم الجنائب على مثل هَذِه
1 / 11
الصُّورَة وَقد أظهرُوا الْعدَد والأسلحة الْكَثِيرَة فَكَانُوا من أَعلَى بَاب الشماسية وَإِلَى قريب من دَار الْخلَافَة وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم والخواص والبرانية إِلَى حَضْرَة الْخلَافَة بالبزة الرائقة وَالسُّيُوف والمناطق المحلاة وأسواق الْجَانِب الشَّرْقِي وشوارعه وسطوحة ومسالكه مَمْلُوءَة بالعامة النظارة وَقد اكتري كل دكان وغرفة مشرفة بِدَرَاهِم كَثِيرَة وَفِي دجلة الشذاءات والطيارات والزبازب والشبارات والزلالات والسميريات بِأَفْضَل زِينَة وعَلى أحسن تعبئة وَسَار الرَّسُول وَمن مَعَه من المواكب إِلَى أَن وصلوا دَار الْخلَافَة وَدخل فأجيز على دَار نصر القشوري فَرَأى ضففا كثيرا ومنظرا هائلا فَظَنهُ الْخَلِيفَة
1 / 12
وداخلته لَهُ هَيْبَة وخيفة حَتَّى قيل لَهُ أَنه الْحَاجِب وَحمل من بعد ذَلِك إِلَى الدَّار الَّتِي كَانَت برسم الوزارة (١)، وفيهَا عَليّ (٢) بن مُحَمَّد بن الْفُرَات، الْوَزير يَوْمئِذٍ فَرَأى أَكثر مِمَّا رَآهُ لنصر الْحَاجِب وَلم يشك فِي أَنه الْخَلِيفَة حَتَّى قيل لَهُ: هَذَا الْوَزير ابْن الْفُرَات فَسلم عَلَيْهِ وخدمه وأجلس فِي مجْلِس بَين دجلة والبساتين قد اختيرت لَهُ الفروش وعلقت عَلَيْهِ الستور ونصبت فِيهِ الدسوت وأحاط بِهِ الخدم والغلمان بالطبر زينات وَالسُّيُوف ثمَّ استدعى بعد سَاعَات إِلَى حَضْرَة المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَقد جلس مَجْلِسا عَظِيما مهيبا فخدم خدمه مثله وَشَاهد من الْأَمر مَا راعه وهاله وَانْصَرف إِلَى دَار قد أعدت لَهُ وَحصل فِيهَا من الْفرش مَا يصلح لَهُ والحواشي والألاف والإقامات كل مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ مِمَّا أظهرت فِيهِ
1 / 13
الْمُرُوءَة والتوسعة فَكَانَت الْحَال إِذْ ذَاك وَقَبله على هَذَا الْوَصْف وَمَا هُوَ فَوْقه.
وَلَقَد شاهدت فِي أَيَّام صمصام الدولة وَسنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة حُضُور ورد عَظِيم الرّوم فِي دَار المملكة وَكَانَ انهزم من بَين يَدي بسيل ولجأ إِلَى عضد الدولة مستنجدا بِهِ
1 / 14
فَقبض عَلَيْهِ بميافار قين وَحمله إِلَى بَغْدَاد فاعتقل إِلَى أَن مَاتَ عضد الدولة وَأقر على الاعتقال إِلَى آخر أَيَّام صمصام الدولة. ثمَّ سَأَلَ فِيهِ زيار بن شهراكوية صَاحب الْجَيْش إِذْ ذَاك بِإِطْلَاقِهِ وتسريحة إِلَى بَلَده فَأطلق وفسح لَهُ فِي التَّوَجُّه بعد ان شرطت عَلَيْهِ شُرُوط وعقدت مَعَه عُقُود وَكَانَ شرح الْحَال فِي حُضُوره
1 / 15
ان فرشت دَار المملكة بالفروش العضدية المستعملة لمجالسها وعلقت الستور الديباج على جَمِيع أَبْوَاب بيوتها وصحونها وممراتها ودهاليزها وأقيم الديلم من دجلة وَإِلَى حَضْرَة صمصام الدولة على مَرَاتِبهمْ صفّين بأجمل لِبَاس وأبهى عدد وَسلَاح وَفِي أَيْديهم وأيدي غلمانهم الزوبينات والتراس والغلمان الدارية والخدم برسمهم وقُوف فِي طول الروشن بالبزة الجميلة وَجلسَ صمصام الدولة فِي السدلي الْمَذْهَب على سدة كَبِيرَة من تحتهَا نهر مرصص يجْرِي فِيهِ المَاء وَقد وضعت بَين يَدَيْهِ الكوانين الذَّهَب فِيهَا قطع الْعود تتقد وتبخر ووافى ورد وَأَخُوهُ وَابْنه بَين
1 / 16
السماطين وعَلى ورد القباء والمنطقة وَبَين يَدَيْهِ الْحجاب بِالسُّيُوفِ والمناطق المخروزة وَسلم على صمصام الدولة سَلاما لم يزده فِيهِ على الانحناء قَلِيلا وتقبيل يَده لَهُ وَطرح لَهُ كرْسِي من فَوْقه مخدة وتخاطبا خطابا كَانَ الترجمان يفسره لكل مِنْهُمَا وَانْصَرف من بَاب غير الْبَاب الَّذِي دخل فِيهِ وَقد أقيم فِي الدَّار الْأُخْرَى من الْجند مثل مَا كَانَ فِي الأولى فَإِن عدَّة الديلم كَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو عشرَة آلَاف رجل وَكَانَ ذَاك مَعَ جلالته فِي وقته لَا يُقَاس بِبَعْض مَا كَانَ فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَكَانَ مَا تقدمه من مثله فِي أَيَّام الْخُلَفَاء الْمُتَقَدِّمين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لَا ينقاس بِهِ لعظم الْأَمر سالفا وتناقصه آنِفا.
وَلَقَد انْتَهَت مُرَاعَاة الْأُمُور قَدِيما إِلَى ان كَانَت خريطة الْمَوْسِم ترد فِي الْيَوْم الرَّابِع وخرائط مصر فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَكَانَ
1 / 17
الهليون يحمل إِلَى المعتصم بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ من دمشق فِي المراكن الرصاص فتصل فِي الْيَوْم السَّادِس وَأقرب عهد من ذَاك ان كَانَت ترد خرائط فَارس فِي أَيَّام عضد الدولة فِي ثَمَانِيَة أَيَّام.
فَأَما بَغْدَاد فِي أَيَّام الْعِمَارَة فَإِنَّهُ وَقع فِي يَدي كتاب يذكر مَا فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعد فتْنَة الْأمين رحمت الله عَلَيْهِ الَّتِي أحرقت وهدمت صَدرا كَبِيرا مِنْهَا وأثرت الإثارة القبيحة فِيهَا تَرْجَمته كتاب فَضَائِل بَغْدَاد الْعرَاق تأليف يزدجرد بن مهبندار الْفَارِسِي لأمير الْمُؤمنِينَ المعتضد بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ قَالَ فِيهِ: قد أَكثر النَّاس فِي بَغْدَاد الْعرَاق إكثارا لم يعطونا فِيهِ دَلِيلا وَلَا أفادونا بِهِ محصولا واقتصروا على ان يَقُولُوا: بلد لَا يشبه الْبلدَانِ
1 / 18
وَلَا كَانَ مثله فِي قديم الإزمان فَإِن من أقل مَا فِيهِ انه يشْتَمل على مِائَتي ألف حمام إِلَى الضعْف. وَمن الْمَسَاجِد والطرازات كَذَاك إِلَى مَا هُوَ متضاعف فَإِذا أخذُوا أَو أَكْثَرهم بإيراد الْحجَّة وَإِقَامَة الدّلَالَة لم يَأْتُوا بقول مُحَصل وبرهان معول وَنحن نفتتح القَوْل بِاتِّبَاع أعدل الإحكام وَأقرب الْأُمُور إِلَى الإفهام وَلَا نقُول كَالَّذي قَالُوهُ فِي عدد الحمامات واعتقدوه فِي الْمنَازل والمساجد والطرازات إشفاقا من هجنة الْإِسْرَاف على السامعين فانا وجدنَا كثيرا من الْخَاصَّة والعامة مذعنين بعدة الحمامات وَإِنَّهَا مِائَتَا ألف حمام دون مَا فَوْقهَا من الزِّيَادَات ثمَّ قَالَ آخَرُونَ: بل هِيَ مائَة وَثَلَاثُونَ ألف حمام كَمَا قَالُوا مائَة وَعِشْرُونَ ألف وَبِه قَالَ الشاه بن ميكال وطاهر بن مُحَمَّد الطاهري ثمَّ قَالُوا من قبل وَمن بعد بِمَا زَاد على الْمِائَة ألف وَبِمَا انْتقصَ مِنْهَا قَررنَا اخْتلَافهمْ على حد نرجوه عدلا متوسطا وَحكما متقبلا واقتصرنا من عدد الحمامات على سِتِّينَ ألف حمام استظهارا وَجَعَلنَا الْعلَّة فِي ذَلِك ان نَأْخُذ وسط مَا ذَكرُوهُ من أعدادها وَمَا وجدنَا الْخَاصَّة وَأَكْثَرهم يَدعِيهِ فِي اعتقادها وَهُوَ مائَة وَعِشْرُونَ ألف حمام فاقتصرنا على النّصْف من الْمِائَة وَالْعِشْرين لِئَلَّا يقبح فِي التَّقْدِير أَو تضيق عَن قبُوله الصُّدُور ثمَّ نَظرنَا فِي قدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل حمام من القوام الَّذين لَا قوام لَهُ إِلَّا بهم فَوَجَدنَا الْحمام مُحْتَاجا إِلَى سِتَّة نفر هم: صَاحب الصندوق والقيم والوقاد والزبال والمزين والحجام وَرُبمَا أطاف بالحمام ضعف هَذَا الْعدَد وَلَكنَّا ركبنَا سنَن الإستظهار فِي معنانا هَذَا فَإِذا فَرضنَا عدَّة الحمامات سِتِّينَ ألف حمام فقد حصل عدد مَا فِيهَا من القوام والمزينين والحجامين ثلثمِائة وَسِتِّينَ ألف انسان ثمَّ فَرضنَا بِهَذَا التَّقْرِيب لكل حمام مِائَتي منزل قِيَاسا على مَا حصل
1 / 19
من الْمنَازل على عدَّة الحمامات بِمَدِينَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور صلوَات الله عَلَيْهِ وَهُوَ لكل حمام أَربع مائَة منزل واستظهارا بِأخذ النّصْف من ذَاك فَاجْتمع من عدد الْمنَازل على هَذِه الْفَرِيضَة اثْنَا عشر ألف ألف منزل ثمَّ وجدنَا قد يجْتَمع فِي الْمنزل الْوَاحِد عشرُون نفسا وَفِي غَيره نفسان اَوْ ثَلَاثَة وَمَا هُوَ أقل من ذَلِك وَأكْثر فاحتجنا إِلَى ان نفرض عددا متوسطا يعتدل بِهِ الْأَمر وَيَزُول مَعَه الشَّك فنقصنا من الْعشْرين نصفهَا وزدنا على الثَّلَاثَة ضعفها وجمعنا مَا بَقينَا وزدنا فَكَانَ سِتَّة عشر وأخذنا النّصْف فَكَانَ ثَمَانِيَة نفر بَين رجال وَنسَاء وأكابر وأصاغر فَاجْتمع لنا من عدد من تضمه هَذِه الْمنَازل سِتَّة وَتسْعُونَ ألف ألف انسان.
ثمَّ ركب مُصَنف هَذَا الْكتاب من هَذِه الْقَاعِدَة قِيَاسا، فِيمَا يُريدهُ هَذَا الْعدَد من النَّاس من أَصْنَاف الْمَأْكُول والمستعمل واللباس وَحكى فِي عرض مَا أوردهُ ان عبيد الله الطاهري حَدثهُ ان إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي اخبره انه رفع إِلَيْهِ ان قدر ثمن مَا يبع من الباقلي الْمَطْبُوخ فِي كل يَوْم فِي أحد جَانِبي بَغْدَاد سِتُّونَ ألف دِينَار وَحقّ ذَاك ان يكون فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مائَة وَعشْرين ألف دِينَار إِلَى غير هَذَا مِمَّا أوردهُ وفصله واستقصى القَوْل فِيهِ ولخصة وانما أوردنا هَذِه الْجُمْلَة من أَمر بَغْدَاد مَعَ خُرُوجهَا عَن الْغَرَض الَّذِي قصدناه لِئَلَّا يستكثر فِي دَار الْخلَافَة مَا ذَكرْنَاهُ وحَدثني إِبْرَاهِيم بن هِلَال جدي ان الحمامات أحصيت فِي أَيَّام معز الدولة فَكَانَت سَبْعَة عشر ألف حمام وَأَنَّهُمْ عجبوا من انتهائها إِلَى هَذِه الْعدة مَعَ كَونهَا فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه صلوَات الله عَلَيْهِ سَبْعَة وَعشْرين ألف حمام وَلَقَد عدت فِي أَيَّام عضد الدولة فَكَانَت خَمْسَة آلَاف وكسرا وَفِي أَيَّام بهاء الدولة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وثلثمائة فَكَانَت ألفا وَخمْس مائَة حمام ونيفا وَهِي الْآن مائَة ونيف وَخَمْسُونَ حَماما وَلَقَد كنت أعجب من الحكايات الْمُخْتَلفَة فِي ذَلِك وَمَا كَانَ يُقَال قَدِيما فِيهِ حَتَّى قَامَ عِنْدِي برهَان مِنْهُ وَهُوَ أَنه قد اتخذ بِبَاب
1 / 20
الْمَرَاتِب الْمَعْمُور فِي ثَلَاثِينَ دَارا مسكونة مِنْهُ بَعْدَمَا أَهله غيب عَنهُ خَمْسَة عشر حَماما فَإِذا كَانَ ذَلِك فِي هَذِه الدّور القليلة وَالْعدة من الْخَواص الْقَرِيبَة فَمَا كَانَت عدَّة خَواص النَّاس فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه رحمت الله عَلَيْهِ من الوزراء وَالْكتاب والحواشي وَالْأَصْحَاب والأمراء والقواد والإشراف والقضاة وَالشُّهُود والتناء والتجار وأولي المروات وَالْأَحْوَال الوافرات لتنقص عَن خمسين ألف انسان إِذا استظهرنا بالاقتصار على ذَاك وَلَا تَخْلُو دَار كل وَاحِد مِنْهُم من حمام على التقليل وَإِلَّا فَفِي دور كثير مِنْهُم الحمامات وَإِذا ثَبت هَذَا القَوْل اطردت بِهِ تِلْكَ الدَّعْوَى وَوَجَب ان يكون قَول المكثر أغلب من قَول المقتصر وَمَعْلُوم أَيْضا ان بَلَدا كَانَت على نهره الَّذِي يخترقه أَعنِي دجلة ثَلَاثَة جسورة لَا يستبعد كَون ساكنيه الْعدة الْمَذْكُورَة.
وَذكر عَليّ بن عِيسَى فِي الْعَمَل الَّذِي عمله لارْتِفَاع المملكة فِي سنة سِتّ وثلثمائة ونعى بِهِ الدُّنْيَا بتقاصر موادها وتناقص أموالها وَاسْتثنى فِيهِ بالحرمين واليمن وبرقة وشهرزور والصامغان وكرمان وخراسان وَكَانَت جملَته معقودة على:
1 / 21
أَرْبَعَة عشر ألف ألف وَثَمَانمِائَة ألف وَتِسْعَة وَعشْرين ألفا وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعين دِينَارا.
فمما أوردهُ فِي جملَة الخرج والنفقات الْخَاصَّة مَا حكايته:
وَمن ذَلِك للأتراك فِي المطابخ الْخَاصَّة والعامة وَمَا يُقَام خَارج الدَّار وعلوفة الكراع وَالطير والوحش على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر فِي أصُول الإقامات والإسفار على المقاطعات مياومات ومشاهرات: لشهر: أَرْبَعَة وَأَرْبَعين ألفا وَسبعين دِينَارا.
ولاثني عشر شهرا: خَمْسمِائَة ألف ثَمَانِيَة [و] عشْرين الْفَا وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعين دِينَارا.
وَمن ذَلِك الْجَارِي برسم المشاهرة للسيدة أيدها الله والأمراء أعزهم الله وَالْحرم صانهن الله والخدم.
لشهر: أحد وَسِتِّينَ ألفا وَتِسْعمِائَة وَثَلَاثِينَ دِينَارا.
ولاثني عشر شهرا: سَبْعمِائة ألف وَثَلَاثَة وَأَرْبَعين ألفا وَمِائَة وَسِتَّة وَتِسْعين دِينَارا.
1 / 22