ومجلس العهد الذي كان لعبة تعبث بها الأهواء لم يفلح في تهدئة الفتنة في فرنسة التي قذفها في بحار الفوضى، ولذلك كان مجلس العهد محطا للاحتقار حينما غاب عن الوجود في 26 من أكتوبر سنة 1797، أي بعد قبضه على زمام الأمور ثلاث سنين، قال المفوض الأسوجي البارون درينكمن، في إحدى رسائله:
أرجو ألا تتحكم في أمة جماعة من الفجرة السفهاء كالتي تحكمت في فرنسة منذ بدء انقلابها الحديث. (3) نهاية مجلس العهد، منشأ حكومة الديركتوار
وضع مجلس العهد - الذي لم يغير إيمانه بتأثير القوانين - دستورا جديدا في أواخر أيامه؛ ليحل محل دستور سنة 1793، الذي لم يعمل به قط، وجاء في هذا الدستور الجديد أنه يقوم بالسلطة الاشتراعية مجلسان: مجلس شيوخ مؤلف من 250 عضوا ومجلس شبان مؤلف من خمسمئة عضو، وأنه يعهد في السلطة التنفيذية إلى جماعة (الديركتوار) المؤلفة من خمسة أعضاء يرشحهم مجلس الخمس مئة ويعينهم مجلس الشيوخ، وقد قضى مجلس العهد أن يكون ثلثا أعضاء المجلس الجديد من أعضائه، إلا أن القرار لم ينفذ، فلم يوال اليعاقبة سوى عشر مديريات، وحكم مجلس العهد على جميع المهاجرين إلى البلاد الأجنبية بالنفي المؤبد، وذلك ليقصي الملكيين عن الانتخابات.
لم يؤثر إعلان هذا الدستور في الجمهورية خلافا لما كان ينتظر، فهو لم يقلل شيئا من الفتن الشعبية، ومن أهمها الفتنة التي توعدت مجلس العهد في 15 من أكتوبر سنة 1795، فقد ساق الزعماء جيشا إليه فعزم على الدفاع حياله فاستحضر كتائب وسلم قيادتها إلى باراس وعهد إلى بوناپارت، الذي أخذ يظهر من عالم الخفاء، في أمر تشتيته، وقد تم ذلك التشتيت على يده بسرعة فلما أطلق الرصاص على العصاة بالقرب من كنيسة سان روك فروا تاركين بضع مئات من القتلى، وهذا العمل الحازم الذي لم يكن لمجلس العهد عهد بمثله صدر عن سرعة حركات الجيش، وكان قمع تلك الفتنة آخر أعمال مجلس العهد المهمة؛ إذ صرح هذا المجلس في 26 من أكتوبر سنة 1795، بأن نيابته انتهت، مسلما الأمور إلى حكومة الديركتوار.
أظهرنا كثيرا من الدروس النفسية المستنبطة من أعمال حكومة العهد، وأهمها عجز الضغط والظلم عن التغلب على النفوس طويلا، فلم يكن عند حكومة من وسائل القهر والاستبداد مثل ما كان عند حكومة العهد، ولكن مجلس العهد - على رغم المقصلة الدائمة والمفوضين المرسلين إلى الولايات مع الجلاد والقوانين الصارمة - كان يضطر إلى مكافحة الفتن والمؤامرات على الدوام، وكانت المدن والمديريات وضواحي باريس تتمرد من غير انقطاع على رغم قصل ألوف الرؤوس.
حارب مجلس العهد - الذي ظن أنه الآمر الناهي - قوى خفية رسخت في النفوس رسوخا لم تؤثر فيه جحافل الضغط والإكراه، وسبب ذلك: أنه لم يدرك شيئا من أمر تلك القوى التي تم لها النصر في نهاية الأمر.
الفصل الخامس
مظالم الثورة الفرنسية
(1) الأسباب النفسية لمظالم الثورة الفرنسية
بينا في الفصول السابقة أنه ينشأ عن المبادئ الثورية إيمان جديد، وهذه المبادئ التي قوامها العاطفة - وإن كانت تمجد الحرية والإخاء - نرى بينها وبين الأفعال تناقضا تاما ، شأن أكثر الأديان التي لم تسمح للناس أن يتمتعوا بالحرية، والتي أقامت مذابح فظيعة مقام الإخاء، وينشأ التباين بين المبادئ والعمل عن عدم تسامح المعتقدات، نعم، قد يأمر الدين بالرأفة والحلم، ولكن أمره يؤول إلى اقتراف المظالم لرغبة أنصاره في إكراه الناس عليه، وبهذا نفسر مظالم الثورة الفرنسية، فلم يكن الهول الأكبر الذي قام أيام هذه الثورة إلا من نوع محكمة التفتيش والحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد الپروتستان في جنوب فرنسة واضطهاد أنصار جانسينيوس، فهذه أمور صدرت كلها عن منبع نفسي واحد.
Unknown page