إن أكثر مشاعر الجيرونديين رقيقة كريمة وأكثر مشاعر اليعاقبة قاسية شرسة طاغية، ولو قابلنا فرنيو بمارا لرأينا البون بينهما شاسعا، ولم يكن ما يدني أحدهما من الآخر.
لم يلبث الجيرنديون الذين تغلبوا في البداءة بأهليتهم وفصاحتهم على مجلس العهد أن استحوذ عليهم المونتانيار الهائجون العاطلون من كل رأي صائب والذين كانوا لا يعرفون غير إثارة عواطف السوقة. (3) صفات مجلس العهد النفسية
للمجالس - عدا صفاتها العامة - صفات تحدث بتأثير البيئة والأحوال، وتمنح كل اجتماع شكلا خاصا، وما عزوناه إلى المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي من هذه الصفات شوهد أشد منه في مجلس العهد.
اشتمل مجلس العهد على خمسين وسبعمئة نائب، وكان ثلث هؤلاء النواب أعضاء في المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي، وقد نجح اليعاقبة - بما أتوا من ضروب الإرهاب - في انتخاباته التي قاطعها ثلاثة أرباع الناخبين، وإذا بحثنا عن مهن نواب مجلس العهد رأينا أكثريتهم العظمى من رجال القانون، أي كانت مؤلفة من المحامين وكتاب العدل والقضاة.
ولم تكن نفسية هذا المجلس متجانسة، وبما أن المجلس الذي يتألف من رجال ذوي صفات مختلفة يكون معرضا لسرعة الانقسام إلى عدة أحزاب، فإن مجلس العهد لم يلبث أن ظهر فيه ثلاثة أحزاب: أي حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار (الجبليين) وحزب الپلين (السهليين)، وكان ينتسب إلى كل من حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار مئة عضو، وكان في حزب المونتانيار أشد الأعضاء تطرفا، ونذكر منهم: كوتون وإيرول دسيشل ودانتون وكاميل ديمولان ومارا وكولوديربو وبيوفارين وباراس وسان جوست وفوشيه وناليان وكاريه وروبسپير، ونذكر من أعضاء حزب الجيرونديين: بريسو وبيسيون وكوندرسيه وفيرنيو، وتألف من الأعضاء الباقين - أي من أكثرية المجلس العظمى - ما يسمونه حزب الپلين (السهليين)، وكان هذا الحزب مترددا صامتا مذبذبا خائفا يتبع كل ناعق ويتقلب مع الزمن وينضم إلى أقوى ذينك الحزبين، فبعد أن أطاع الجيرونديين اتبع المونتانيار عندما تغلبوا على خصومهم، وهذه هي نتيجة السنة القاضية على العزائم الضعيفة بالخضوع للعزائم القوية.
وتجلى تأثير النواب النافذين تجليا ساطعا في مجلس العهد، فقد سيرته أقلية ضعيفة الذكاء أكسبتها عقائدها الراسخة قوة عظيمة.
وتقود أقلية متصفة بالشجاعة والإقدام أكثرية خائفة مذبذبة، وبهذا نوضح سر تطرف المجالس الثورية.
وانتقل رجال العهد بالتدريج من طور الاعتدال إلى طور القهر والاستبداد، ثم أخذوا يقتتلون، فقتل وهرب 140 من 180 جيرونديا كانوا يديرون مجلس العهد في البداءة، ثم ساد روبسپير - الذي كان أشد رجال الهول تعصبا - فريق النواب الذي استحوذ عليه الخوف، فرضي بالذل والاستكانة.
كان الأذكياء في ذلك المجلس من حزب الپلين (السهليين) أي من خمسمئة العضو المترددين المذبذبين، وتألفت اللجان الفنية التي تعزى إليها أعمال مجلس العهد النافعة من هذا الحزب، ولم يبال أعضاء هذا الحزب بالسياسة، وأوجب انهماكهم بأمور اللجان عدم ملازمتهم مجلس العهد، ولذا كانت جلسات هذا المجلس لا تحتوي أكثر من ثلث النواب، ومن دواعي الأسف عدم اتصاف هؤلاء الأذكياء الصالحين بخلق الثبات والحزم، شأن من هو مثلهم في الغالب، فالخوف دفعهم إلى استصواب ما كان يمليه عليهم الزعماء المتغلبون من الأوامر السيئة.
واستصوب حزب الپلين (السهليين) كل ما أمر به، فاستحسن إحداث محكمة ثورية نظام الهول، ومحق المونتانيار الجيرونديين بمعونته، وأباد روبسپير الإيبريين والدانتونيين، وساعد جبن أعضائه على اقتراف مظالم العهد الهائلة.
Unknown page