ولا تتوطد عناصر روح الأمة إلا إذا كانت على شيء من الثبات الذي تسهل به مرونة تلك الروح، فالروح الوراثية بلا ثبات تكون مذبذبة غير مستقرة، وبلا مرونة تكون عاجزة عن ملاءمة تقلبات البيئة الناشئة عن تقدم الحضارة.
وشدة المرونة في روح الأمة تسوقها إلى القيام بثورات متوالية، وشدة الثبات تقودها إلى الانقراض، فذوات الحياة، ومنها الأنواع البشرية، تضمحل إن ظلت مستقرة على الرغم من تعاقب الزمن وعاجزة عن ملاءمة ما يطرأ على الحياة من الأحوال الجديدة.
والأمم التي وازنت بين هاتين الصفتين المتناقضتين - أي الثبات والمرونة - قليل عددها، ونذكر منها الرومان في القرون القديمة، والإنكليز في الوقت الحاضر.
حقا إن الأمم التي رسخت روحها كثيرا تأتي بأشد الثورات في الغالب، فهي لعجزها عن النشوء التدريجي تضطر إلى ملاءمة تقلبات البيئة بعنف عندما تصبح هذه الملاءمة أمرا ضروريا.
ولا تستقر روح الأمة إلا ببطء عظيم، فما التاريخ إلا أنباء مجهوداتها الكبيرة في سبيل توطيد روحها، وتظل هذه الأمم مذبذبة لا رابطة بين أجزائها ما دامت غير ناجحة في ذلك. وقد سعت فرنسة، بعد أن أغار البرابرة على الدولة الرومانية في أواخر عهدها، قرونا كثيرة لتنال روحا قومية.
نعم، إنها اكتسبتها في آخر الأمر، ولكن رسوخها لم يلبث أن صار شديدا، ولو اتصفت روحها بقليل من المرونة؛ لتطور نظامها الملكي القديم بالتدريج، ولتخلصت من ثورتها الكبرى ومن نتائجها ومن سعي شاق لتجديد روحها القومية.
تثبت لنا الملاحظات السابقة شأن العنصر في تكوين الانقلابات، وتوضح لنا لماذا تأتي الثورة الواحدة بنتائج تختلف باختلاف الأمم، كما توضح لنا سبب إقبال بعض الأمم بحماسة على مبادئ الثورة الفرنسية ومقاومة الأمم الأخرى لها.
لا ريب في أن إنكلترة المحافظة عانت أمر ثورتين وقضت على أحد ملوكها، ولكن مزاجها النفسي كان ثابتا ثباتا كافيا لحفظ تراث الماضي ومرنا مرونة كافية لنشوء هذا المزاج حسبما تقتضيه الضرورة ، وهي - على عكس رجال الثورة الفرنسية - لم تفكر قط في تقويض تراث الأجداد؛ لتقيم مجتمعا جديدا باسم العقل.
قال ألبير سورل: «بينما كان الفرنسي يحتقر حكومته ويمقت إكليروسه ويحقد على أشراف أمته ويتمرد على قوانين بلاده، كان الإنكليزي يفتخر بدينه وبدستوره وبأكابر أمته وبمجلس أعيانه، فكان كأنه يحكم أوربة ويستخف بها معتصما بأبراج ذلك الحصن المنيع».
ويتجلى لنا أيضا شأن العنصر في مصير الأمم عند البحث في تاريخ الثورات الأمريكية الإسبانية الدائمة، فالأمم الأمريكية الإسبانية مولدة، أي مؤلفة من أناس انحلت أخلاقهم بتأثير الوراثة المتباينة انحلالا حرمهم روحا قومية ثابتة وجعل حكمهم متعذرا.
Unknown page