ظن الناس - أيام الانقسام إلى قبائل والتفاوت في الأنساب - أن الفروق الاجتماعية صادرة عن سنة طبيعية، ولكن عندما زالت الفروق الاجتماعية القديمة ظهر أن الفرق بين الطبقات أمر مصنوع لا يطاق، فرأت الأمم الديموقراطية أن تتلافى ذلك بإحداث مراتب مصنوعة يستطيع نائلها أن ينتحل بها أفضلية على غيره، وما فشا الطمع في الألقاب والأوسمة في زمن فشوه اليوم.
ولا تأثير للألقاب والأوسمة في البلدان الصحيحة الديموقراطية كالولايات المتحدة، وإنما يتفاوت فيها الناس في المال، وقد يحدث أن فتيات مثريات يقترن فيها بذوي الألقاب الأريستوقراطية الأوربية، وهكذا يفعلن بغرائزهن ما يجعل أمة فتاة كالولايات المتحدة تنال ماضيا ضروريا لثبات مزاجها الأدبي.
وإذا نظرنا إلى الأريستوقراطية التي نشاهد ظهورها في أمريكة من حيث العموم رأينا أنها لم تقم على الألقاب والأوسمة، بل على المال؛ ولهذا لا تلقي هنالك في القلوب حسدا كبيرا، فكل امرئ في أمريكة يطمع أن ينال منه قسطا كافيا في أحد الأيام.
وقد كان توكڤيل يجهل - عندما ذكر رغبة الأمريكيين في المساواة في كتابه الباحث عن الديموقراطية - أنه سينشأ عن هذه المساواة المنتظرة تقسيم الناس إلى طبقات على حسب ما يملكون من الدولارات، ولا بد من حدوث ذلك في أوربة يوما ما.
وليس في الوقت الحاضر ما يسمح لنا أن نعد فرنسة بلادا ديموقراطية، وهنا نرى أنفسنا حيال ضرورة البحث عما ينطوي تحت كلمة الديموقراطية من الأفكار التي تختلف باختلاف البلدان.
وعندنا أنه ليس في العالم بلاد صحيحة الديموقراطية غير إنكلترة وأمريكة، فهذان البلدان - وإن تجلت فيهما الديموقراطية على شكلين مختلفين - تشاهد فيهما مبادئ واحدة، ولا سيما مبدأ التسامح المطلق مع جميع الآراء والأفكار، ولكل امرئ في هذين البلدين اللذين لا عهد لهما بالاضطهادات الدينية، أن يتخذ المهنة التي تروقه، مهما كان عمره، من غير أن يقوم أي حاجز في وجهه.
ويعتقد الناس في ذينك البلدين أنهم متساوون؛ لعلمهم أنه لا شيء يمنعهم من الوصول إلى أعلى المراتب، فالعامل فيهما يعلم أنه يستطيع أن يكون عريفا فمهندسا، وإذ كان من الواجب على المهندس أن يبدأ فيهما بالصعود من أسفل الدرجات، لا أن يصعد إلى أعلاها دفعة واحدة، كما يقع في فرنسة، فإنه لا يعتبر نفسه من جوهر غير جوهر الناس، وهذا هو السر في كون الحقد - الشديد الشيوع عندنا - لم ينتشر في إنكلترة وأمريكة إلا قليلا.
ولا محل للديموقراطية الفرنسية إلا في الخطب، وما في فرنسة من أنظمة المسابقات والامتحانات التي يضطر المرء وهو شاب إلى معاناتها يسد في وجهه أبواب المهن، ويحدث في صميم الأمة الفرنسية طبقات متباينة متخاصمة.
وعلى ذلك نرى أن الديموقراطية اللاتينية أمر نظري، وبتعبير آخر: قد حل الاستبداد الحكومي عندنا محل الاستبداد الملكي، ولم يكن أقل قسوة منه، وقد قامت الأريستوقراطية المالية في بلادنا مقام أريستوقراطية النسب، ولم تكن امتيازاتها أخف وطأة.
والفرق بين الملكية والديموقراطية في الشكل أشد مما في الأصل ، ويتبع الفرق الحقيقي بين نتائجهما ما عند الناس من النفسية المتحولة، ولا فائدة من المجادلات في قيمة مختلف الأنظمة التي تكون قيمتها بقيمة المرؤوسين، وتكون الأمة على شيء عظيم من الرقي إن علمت أن منزلتها بنسبة الجهود التي يقوم بها أفرادها، لا بنسبة جهود حكوماتها.
Unknown page