ومن ألف البساطة في معيشته لا يدفعه اليأس إلى الانتحار، إن خسر ماله، أو فقد مركزه؛ لأنه قليل الاهتمام بظواهر الغنى والجاه، فلا يكون شأنه إذا نزل به الفقر شأن الطفل المدلل، إن حبسوا عنه سائر اللعب التي كان يفاخر رفاقه ويدل بها عليهم؛ إذ ينكمش بعيدا عنهم ذليل النفس ضعيف الحول لا يقدر على رفع رأسه بين من كان يفخر عليهم ويشاكسهم.
ولو لم يكن في الاعتدال والبساطة في العيش غير كف الأنظار عن الحسد، ومنع الكراهية والبغضاء التي تنشأ منه، وغير اجتناب نتائج الغيرة التي تتولد في قلوب الحاسدين، والمشاكل التي يستدعيها الإسراف لكفى.
وليتذكر العاقل أن للظهور ثمنا باهظا يدفع من المال، وراحة الضمير والفكر ومن الحقيقة، وهو ثمن لا يستهان به، ولا يقوى على دفعه امرؤ بدون أن يعكر صفو هنائه.
الاعتدال والسرور
كلما ينظر الباحث إلى المجتمع الإنساني وأطواره الذاتية وإلى الأحوال الشخصية يزداد وثوقا بإقفار القلوب من عاطفة السرور الحقيقي، وليس ذلك لرغبة الناس عن هذه العاطفة أو لتقصيرهم في البحث عن أسبابها ووسائلها، فإن العالم بأجمعه إنما يسعى بكل قواه ليسر ويفرح.
إن في الناس من ينسب الاستياء العام والفتور المخدر إلى أسباب مالية أو سياسية، ومنهم من يرجع الأسباب إلى المشاكل الاجتماعية، والخصومة الدائمة بين الخلائق. والحقيقة أن الباحث ليحار في إسناد ذلك إلى سبب واحد لتعدد الأسباب ووفرتها. وإن المرء ليرى كل من يصادفهم في شغل دائم وتعب يرزحون تحت أعباء من الهم والنكد، إما لشقاق في السياسة، وإما للمشاكل القضائية القائمة بين الناس، وإما للغيرة التي تحرق الصدور وتأكل القلوب، وإما للحسد المتبادل بين ذوي المهنة أو الصناعة الواحدة، وإما للتنافس بين ذوي اليسار والمراكز السامية، وإما للمزاحمة في التجارة.
ولا يفوت الباحث أن التعليم ولوائحه الكثيرة الصارمة من أكبر الأسباب التي تشغل أفكار الشبيبة، وتنغص عليها العيش، كما أن الصناع والعمال في هم متزايد بسبب الخلاف الدائم بينهم وبين أصحاب المصانع والأعمال.
فالحياة لا تلذ للحاكم لضياع النفوذ وقيام الأمة بكسر قيود الإرهاق وطلب التخلص من السلطة المطلقة، والمعلم ساخط لقلة اكتراث الناس بالعلم ومعرفة أقدار المربين والمهذبين. وهكذا بقية الناس لا ترى فيهم إلا المغضب المستاء، مع أن التاريخ يرينا عصورا كثيرة تنقصها مزايا العصر الحاضر من معدات الرفاهية والتنعم، وأسباب السرور والراحة، ويرينا ما كان عليه الإنسان في تلك الأزمان من سعادة العيش، وصفاء البال والاغتباط بهما، رغما من الحوادث الخطيرة الجمة التي تذهب بلذة الحياة.
ويظهر أن سوء الحظ والشقاء وعدم الاعتداد بالمستقبل وتتابع الأزمات، هي من الأسباب الموحدة للقوى الدافعة إلى التضافر؛ لمقاومة الكوارث الطارئة والمصائب العامة التي تصيب الناس بالضر والأذى.
وقد مر على الإنسان حين من الدهر لم تخل لحظاته من هم جديد وشقاء دائم، غير أن ما اعتور راحته وعيشه من الطوارئ المتعبة، والنوازل العائقة لم يسلبه الهناء والسعادة، بل كانت تلك الفترات خير الأزمان التي عرف فيها الفرح والاغتباط، وهذا عجيب بعيد عن التصديق، ولكنه الواقع، ويرجع السبب في ذلك إلى سلامة الضمير من أدران الخبث، وتنزه النفس عن كثير من الطباع المرذولة كالحسد والغيرة والطمع، إلى غير ذلك.
Unknown page