وكل هذه الرغبات تنحصر في مختلف الأطعمة، وزخرف اللباس، واختيار القصور المشيدة والحدائق الغناء، فلا ترى ذلك ممكنا إلا للسراة وكبار الأغنياء، حتى إذا وصلت إلى من دونهم ثروة وكسبا استحالت مرضاة النفس، فتعيش مرغمة على الكفاف ناقمة على سوء الحظ وقصر اليد عن إرضائها بما جنحت وتاقت إليه.
وكم من الناس من انتحروا لأول إصابتهم بشيء من العسر بعد السعة، ففضلوا الموت والفناء على الإقلال بعد اليسار. مع أن الحال التي لم ترضهم ربما كانت نعمة يحسدهم عليها غيرهم ويحلم بمثلها الكثيرون!
والمشاهد أن العالم صنوف مختلفة: منهم الأغنياء وملوك المال، وأولئك يعيشون عيشة البذخ والظهور، تحوطهم الأتباع والخدم ويتقلبون في مساكن عدة حسب تقلب أيام السنة وفصولها. ومنهم أنواع المزارعين وذوو الأملاك، وأولئك في حال من العيش لم يبلغ بذخ الأغنياء، ولم يهبط إلى دائرة الفقراء. ويعقبها طبقة الشعب وهي المزيج من ذوي الكفاف والصناع والعمال والفلاحين وسائر أفراد الأمة، بيئة لا يعرف العيش فيها إلا من نشأ معتادا ما فيها من ضيق وعسر، ويصعب على أفراد الطبقات الأخرى اعتياد شظف عيشها ونكد حياتها، ومن قضى عليه الشقاء بالتدهور إليها لاقى من صنوف العذاب والألم ما لم يعرفه، ولا يكون له جلد على احتماله، وربما طلب الموت فرارا ويأسا.
إن الناس على اختلاف الطبقات متساوون في الخلقة والتكوين؛ لأنهم من نوع واحد وطينة واحدة، لا يتفاوتون إلا في الحاجات والتبذير في الكماليات وحب الظهور، وليس من المفيد أو الضروري لسعادة الإنسان والهيئة الاجتماعية أن تتعدد المطالب، وتكثر الحاجات إلى درجة تستدعي أن ينهك المرء نفسه، ويستنفد قوته وجهده للحصول على بعضها، إذا لم يتمكن من الحصول عليها جميعا. ولو قارن كل فرد نفسه بمن هو دونه في الغنى والجاه، ونظر إليه كيف يرضى ويسر بالضروريات - إن حصل عليها - لاستطاع أن يردع النفس عن غيها، وقوي على كبح جماحها وأرضاها بما يرضي القنوع الراضي.
والحقيقة أن الاستياء عام يشمل كل الطوائف وكل الأفراد، اللهم إلا المعوزين الذين لا يملكون قوت اليوم، أولئك الذين يتضورون جوعا ويصلون لفحات الشمس؛ لأنهم لا يجدون مكانا يتفيئون ظله، ويقرسهم البرد؛ لأنهم عراة لا يملكون لباسا ولا غطاء ويقتلهم العوز؛ لأن يدهم خالية لا تشمل ميراثا ولا تستثمر موردا. وإننا لنظلم أولئك البائسين إن عددناهم من الساخطين المستائين.
وقد يتعب الباحث إذا عني بمعرفة سبب سخط الناس على عيشهم وما هم فيه، سواء في ذلك طبقة الشعب والطبقة المتوسطة، أولئك الذين لديهم ما يفضل عن حاجتهم الضرورية ولا ينتفعون بما نالوا من الرزق ولا يعترفون بنعم الله وما منحهم من جزيل العطاء. فإن صادفت غنيا قانعا بما في يده فلا تتوهم كون سروره بماله وثروته، فإنما هو رجل يعرف كيف يقنع فيسر وكيف يسعد فيلذ له العيش.
الدابة إن شبعت تنام ملء عينيها، ولكن الإنسان لا يهدأ طويلا إذا هو أثرى، بل يشتد طمعه ويزيد جشعه، وكلما كثر ماله زادت شراهته وتعددت رغباته وأمانيه. ومن هذه الحقيقة ترى أن أكثر الناس شكوى من الحال وسخطا على العيش هم أكثرهم سعة، وأوفرهم في أسباب الاغتباط والشكر. وهذه حجة قاطعة على أن السعادة ليست في الغنى وكثرة الحاجات، وإذا لم يعرف الإنسان هذه الحقيقة البديهية، فلا يعرف حدا لمطامع النفس، ولا يوقف رغباتها المتعددة، فلا يعرف معنى لهدوء القلب وطمأنينة النفس. •••
إن الرجل الذي يعيش ليأكل ويشرب وينام ويلبس ويتنزه ويلهو بكل ما في وسعه من أسباب الملاهي والملاذ؛ هو المعتل أسير الشهوة وعبد النفس، سواء كان هو المقعد الذي يلذ له النوم تحت حرارة الشمس، أو العامل السكير، أو القروي البطن، أو المرأة المولعة بالزينة والتبرج، أو السري الشهواني، فكلهم على مزلق السقوط الأدبي، وهو مزلق - لو عرف الناس - خطير.
ومن ساء حظه وزلت قدمه كان شأنه شأن الحجر الساقط من عل. وقد يعلل النفس بالوقوف عن هذا التطوح بعد نيل أمنية مطموع فيها، ولكنها تعلة فاسدة لا تلبث أن تزول إذا نيل المطموع فيه فلا يقف ولا يقنع، يسوقه الطمع قسرا ولا إرادة تمنعه من التورط؛ لأن الخضوع لأهواء النفس ومراميها يقضي على الإرادة ويقتلها، هذا هو سر الارتباك المتفشي والاستياء العام، وهو أقل جزاء لمن تخضع إرادته لميوله ويستعبده الطمع والجشع، فإن الرغبة تفعل في قلبه فعل النار بيابس الحطب، وتنخر عظامه نخر السوس الخشب، وتمتص دمه فلا يذوق طعم الراحة والهناء ما دام في قيد الحياة.
وليس هذا مجرد تخمين أو ظن أو رجم بالغيب، وإنما هو حكم وثيق بعد مشاهدات عديدة، واحتكاك بأحوال الناس وتصرفاتهم، حكم تؤيده المشاهدة والواقع، وهو من الحقائق التي لا ينقضها العقل ولا المكابر.
Unknown page