وقد يقال إن هذا العالم - عالم الروح - قد سبق أن تناوله الكتاب من قبل، فأجيب أنه لم يسبق أن تغلغل أحد تغلغلا مباشرا جريئا صريحا كما صنع كتاب الروس، ولذلك لا يخاطب الأدب الروسي أي إنسان، ولا أي روح، بل يخاطب الروح البسيطة الصادقة الميالة للخير، هي هذه التي تتجاوب معه والتي تفهمه والتي تحبه. والواقع أن الأدب الروسي يظل غريبا على الذي اعتاد قراءة الأدب الغربي الخاضع للعقل والترتيب والمنطق والشكل.
والصواب أن على الإنسان أن يقرأ كثيرا قبل أن يتمكن من فهم هذا الوعي الجديد.
هذه هي الأهمية الأولى: الأدب الروسي أدب يبحث في أسرار الروح وتفاعلها وآلامها وحسراتها.
والأهمية الثانية: هي أن الأدب الروسي يبحث مسألة السلوك الإنساني بحثا مباشرا صريحا جريئا، وكما تعود الكتاب أن يفصلوا بين العاطفة والعقل، فكذلك الأخلاقيون يفصلون بين الطبيعة العقلية والطبيعة الخلقية، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يكون سليم الأخلاق، وهو في ذات الوقت ناقص العقل، أو العكس، فالروس يقولون أن هناك وحدة بين قانون العقل وقانون الخلق، وأن البحث على أنهما منفصلان هو أصل الخطأ ومصدر الضلال، وقد يقال: إن هذا المذهب إغريقي قديم، نادى به «يوربيدس» ودعا إليه في مسرحياته، وهذا صحيح، ولكن تناوله على أيدي الإغريق كان تناولا هينا لينا، أما تناول الروس له فكان تناولا حارا عاصفا عنيفا، والسبب في ذلك ينطبق على الإغريق كما ينطبق على أهل الغرب اليوم، فإن الإغريق مارسوا السياسة وتطبعوا بالطابع العملي شأنهم شأن أهل الغرب، ولذلك فإن قواهم الروحية استنفدت في مزاولة الناحية السياسية أو العملية، أما الروس فإن أرواحهم احتفظت بكامل قواها في تناول المسألة التي تختص بالسلوك الإنساني، وتناولتها يإيمان وحماس.
وعيب الناحية العملية أنها تجعلنا نقبل عدم الكمال كحالة واقعة، ونسلم بالفوضى الحاضرة على أنها حقيقة مؤثرة، وإننا «عمليا» يجب أن نرضى بهذا.
ولكن الروسي لا يقبل هذا الرأي، فهو يعتقد أن النقص علاقة على الكمال، زيادة على أن النفس الروسية لا تدين «بالانفصال»، فعندها أن السياسة والروحانيات ملتئمان لا يتجزءان، وعيب الغرب وكتابه محاولة التفرقة بين السياسة والروح، أو السياسة والدين، على فكرة أن السياسة شيء غير مشترك، والدين شيء فردي خاص.
ولكن الروس يرون أن الدين لا يمكن أن يكون خاصا بمعنى كلمة الخصوص؛ فإنه يمس الفرد وغيره بلا جدال.
ولذلك لا يعترف الروسي في قرارة نفسه بحرفية القانون، أو بالناحية العملية للقانون؛ لأن القانون يحاسب على العمل، ويفصل العمل عن الاعتقاد، بينما العقلية الروسية اللاانفصالية لا تفصل العمل عن الاعتقاد.
وإذن فمسألة السلوك الإنساني لا تعني مطلقا قصة الفعل عمليا، بل قصة الرأي والاعتقاد كذلك بمعنى أن المسلك السياسي أو العملي يستند دائما إلى خلفية روحية.
وإذن فالحكم على العمل لا يعطينا قضاء محكما، فإن الرأي والمعتقد جزء من الشخصية، والشخصية شيء نهائي وقد يكون جبريا خارجا عن خيارنا، فهذا الاتحاد يجعل الحكم على ناحية واحدة حكما غير متين.
Unknown page