فمن المؤكد أننا بقدر ما نجهل العلل الطبيعية، لن نكون قد فهمنا قدرة الله، فلا يعقل إذن أن نلتجئ إلى قدرة الله عندما نجهل العلة الطبيعية لشيء ما، أي عندما نجهل قدرة الله نفسها، أما علة المعرفة النبوية فلسنا في حاجة إلى معرفتها، فطبقا للملاحظة التي أبديناها من قبل يقتصر بحثنا هنا فقط على تعاليم الكتاب لنستخلص منها نتائجنا، كما نفعل مع المعطيات الطبيعية، دون أن نبحث في علل هذه التعاليم.
43
ولما كان الأنبياء قد أدركوا الوحي الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شك أن كثيرا من تعاليمهم قد تعدت حدود الذهن؛ لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نكون أفكارا تزيد عن تلك التي نكونها بالمبادئ والمفاهيم الذهنية التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعية.
وبناء على ذلك، يتبين لنا السبب الذي جعل الأنبياء يدركون تعاليمهم ويعرضونها دائما بلغة الأمثال أو الألغاز، وجعلهم يعبرون عن الحقائق الروحية بطريقة جسمية، فهذه الأساليب هي التي تتفق تماما مع طبيعة الخيال. لن نندهش عندما يستعمل الكتاب أو الأنبياء للتعبير عن الروح، أي عن فكر الله، لغة معيبة غامضة كتلك التي نجدها في سفر العدد (17: 11)،
44
وفي سفر الملوك (الأول، 22: 21)،
45
فلقد رأى ميخا الله مستويا على العرش، ورآه دانيال عجوزا متلفحا بالبياض، ورآه حزقيال نارا، ورأى تلامذة المسيح الروح القدس هابطة في صورة حمامة، ورآها الحواريون في صورة ألسنة من النيران، وأخيرا فقد رأى بولس نورا ساطعا في لحظة تحوله إلى العقيدة. هذه الرؤى تتفق جميعا مع تصورات العامة لله وللأرواح. وأخيرا، فلما كان الخيال مبهما ومتقلبا، لم تبق النبوة دائما ماثلة أمام الأنبياء، ولم تتكرر باستمرار، بل كانت نادرة للغاية، أي إنها لم تعط إلا لعدد قليل من الناس، بل لا تحدث عند هذا العدد القليل إلا نادرا. ولما كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: على أي أساس أقام الأنبياء يقينهم في تلك الموضوعات التي يدركونها بالخيال دون ضمان من مبادئ الفكر المؤكدة؟ مهما يكن من شيء فإن كل ما نقترحه في هذا الموضوع يجب أن يكون بدوره صاردا عن الكتاب لأننا - كما قلنا من قبل - لا نعلم عن النبوة علما صحيحا، أي إننا لا نستطيع تفسيرها بالعلل الأولى، وسأبين في الفصل القادم في حديثي عن الأنبياء ماذا يقول الكتاب عن اليقين الذي يعتمدون عليه.
الفصل الثاني
الأنبياء
Unknown page