104
فإذا وجد مؤمن في دولة وثنية مثلا فليس أمامه إلا حلان: الأول رفض تفويض السلطة لها والتعرض للإفناء التام، والثاني تفويض السلطة لها والإبقاء على النفس وطاعة قوانين الدولة، ولا يستثنى من ذلك إلا من وعده الله بتقديم العون له ضد الطاغية.
105
خامس عشر: نشأة دولة العبرانيين وسقوطها
ويطبق سبينوزا نظريته في العقد الاجتماعي على تاريخ العبرانيين،
106
فبعد خروج العبرانيين من مصر لم يخضعوا لدولة أجنبية، بل أقاموا شريعة خاصة واحتلوا ما شاءوا من الأرض، وللخروج من هذه الحالة الطبيعية فوضوا حقهم الطبيعي إلى الله نفسه ووعدوه بتنفيذ أوامره التي قررها في الوحي، وكان هذا الوعد بمثابة عقد اجتماعي ينشأ بين أفراد الجماعة الواحدة من أجل اختيار سلطة تمثل الجميع، وقد قام العبرانيون بهذا العقد بمحض اختيارهم، وبذلك أصبح الله زعيمهم السياسي، وأخذت دولتهم اسم مملكة الله. كان الله ملك العبرانيين، وكان أعداء العبرانيين أعداء الله، واختلط التنظيم الديني بالتنظيم الوضعي، وكانت مبادئ الإيمان هي مجموعة من القوانين، وكان الدين واجبا وطنيا، قامت دولة العبرانيين إذن على الحكم الإلهي (التيوقراطي)، وكان جميع العبرانيين سواء أمام الله والقانون، وكان لهم جميعا الحق نفسه في مخاطبة الله وتفسير القوانين والمشاركة في وظائف الدولة.
وفي العهد الثاني، فوض الجميع لموسى حقهم في مخاطبة الله وتفسير القوانين. وبذلك حكم موسى العبرانيين بدلا من الله، حتى لقد اتهمه البعض باغتصاب السلطة، ولم يكن للشعب، قبل موسى، الحق في اختيار خليفته، بل كان على موسى، بمقتضى تفويض السلطة له تعيين الخليفة لتنظيم الدولة ومخاطبة الله ونسخ القوانين وإرسال المبعوثين وتعيين القضاة واختيار الخليفة. تحول النظام إلى ملكية طبقا للتعاليم الإلهية، مما زاد من سلطة الرئيس، وكان مصير الشعب معلقا به، وعندما ترك موسى الحكم خلف وراءه نظاما تيوقراطيا لا ملكيا أو أرستقراطيا. وأول ما قام به موسى هو بناء مسكن لله، وقد قام الشعب بتكاليف البناء، وعين اللاويين خداما له وعلى رأسهم هارون الذي أصبح فيما بعد خليفة لموسى ومفسرا للقوانين ومخاطبا لله، دون أن تكون له سلطة تنفيذ القوانين، كما أبعد موسى اللاويين من الحياة السياسية الذين لم يكن لهم الحق، كباقي الأسباط، في ملكية الأرض للتعايش منها، بعد أن كفل لهم باقي الأسباط ما يتعيشون منه، للتفرغ لخدمة المعبد. ثانيا، أسس موسى جيشا من الأسباط الاثني عشر لغزو بلاد كنعان، ثم قسم الأراضي التي استولوا عليها اثني عشر قسما، لكل سبط قسم، وعين لكل سبط رئيسا لتوزيع الأنصبة يعينه في ذلك كعب الأحبار ويشوع. وبعد أن عين يشوع رئيسا للجيش كان له الحق وحده في مخاطبة الله عندما تعرض له مسائل جديدة، ولكنه لم يكن وحده في المظلة كموسى، بل كان عليه أن يتوسط لذلك بكعب الأحبار الذي كان له الحق وحده في مخاطبة الله، ثم بعد ذلك يبلغها يشوع للشعب ويفرضها عليه ويتخذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذها، ويعين قواد الجيوش، ويبعث الرسل ويقوم بشئون الحرب. ولم يكن هناك تفكير فيمن يخلفه دون اختيار من الله كما تقتضي ذلك مصلحة الشعب، أما المشكلات الجزئية في الحرب فكان يقوم بحلها رؤساء الأسباط. أما الخدمة العسكرية فقد كانت واجبة على الجميع من العشرين حتى الستين، وكان على الجنود قسم الولاء لله لا للقائد؛ ولذلك سمي الجيش «جيش الله»، والله «إله الجيوش». وفي المعارك الحاسمة كان تابوت العهد ينصب وسط الجيش حتى يدافع عنه الجميع.
وقد عين موسى موظفين لا رؤساء دولة لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله، ولم يكن لأي أحد سواه الحق في القيام بمهام الدولة من سن القوانين ونسخها وإعلان الحرب وعقد معاهدات السلم والتعيين في الوظائف المدنية والدينية. أما كعب الأحبار فكان له الحق فقط في تفسير القوانين وتبليغ إجابات الله، ولكنه لم يكن حرا في اختيار الوقت لذلك، بل كان عليه انتظار تكليف الشعب أو المجلس الأعلى له بذلك. وعلى العكس، كان لقائد الجيوش أو المجالس العليا الحق في مخاطبة الله بوساطة كعب الأحبار؛ لذلك لم تكن إجابات الله على لسان كعب الأحبار قرارات كما كان الحال عند موسى بل مجرد وصايا. لم يعتمد كعب الأحبار على أي جيش ولم تكن له أية سلطة مادية، بل إن كل من كان يتمتع بحق الملكية لم يكن له الحق في صياغة القوانين.
وبعد موت يشوع لم يعين كعب الأحبار قائدا للجيش، ولم يطلب رؤساء الأسباط من الله أن يعين لهم قائدا، بل قاد كل رئيس جيشه، وأصبحت كل الجيوش ممثلة لقيادة يشوع، كما أصبحت القبائل أقرب إلى الدويلات المتحالفة منها إلى الدولة الواحدة، في حين أنه بالنسبة لله ما زال العبرانيون يمثلون دولة، فإذا لم يقم رئيس سبط ما بالتزاماته اعتبرته سائر الأسباط عدوا لها يحق لها حينئذ غزو أراضيه، ويتم اختيار خلفاء الأسباط من أقدم البطارقة سنا، فقد اختار موسى سبعين بطريقا أعضاء للمجلس الأعلى الذي قام بمهام الدولة بعد موت يشوع إلا في بعض الأحيان عندما كان يقوم بها فرد أو مجلس أو الشعب نفسه؛ لذلك لم يكن نظام العبرانيين ملكيا أو أرستقراطيا أو شعبيا بل إلهيا (تيوقراطيا). وكان هذا النظام يعتمد على شيئين: (1)
Unknown page