وهناك صعوبة أخيرة نجدها في تفسير أسفار الكتاب وفقا لهذا المنهج، وهي أننا لا نملك هذه الأسفار في لغتها الأصلية، أي في لغة كاتبها، فالرأي السائد هو أن إنجيل متى وكذلك الرسالة إلى العبرانيين قد كتبتا بالعبرية، ثم فقد النص العبري. وهناك تساؤل عن اللغة التي كتب بها سفر أيوب، فابن عزرا
25
يؤكد في شروحه أنه قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى، وأن هذا هو سبب غموضه. ولن أتحدث عن الكتب المنحولة، التي تعد سلطتها أقل بكثير، وهكذا عرضت جميع الصعوبات التي تنشأ عن هذا المنهج في تفسير الكتاب، بالفحص النقدي لمعطيات التاريخ المتعلقة به، وأنا أعد هذه الصعوبات من الخطورة بحيث لا أتردد في القول بأننا لا نعرف معاني نصوص كثيرة من الكتاب، أو أننا نجملها دون أي يقين، ولكني أود أن أكرر ما قلته، من أن ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الصعوبات هو أن تمنعنا من فهم فكر الأنبياء فيما يتعلق بالأشياء غير القابلة للإدراك، والتي لا نستطيع إلا تخيلها. أما الأشياء التي نستطيع إدراكها بالذهن، والتي نستطيع بسهولة أن نكون عنها تصورا
26 ⋆
فأمرها مختلف؛ إذ إن الأشياء التي يسهل إدراكها بطبيعتها، لا يمكن أن يبلغ التعبير عنها من الغموض حدا لا يعود من السهل معه فهمها، وذلك طبقا للمثل القائل: «كلمة واحدة تكفي لمن يفهم.» فمن السهل شرح إقليدس لجميع الناس وبكل اللغات لأنه لم يكتب إلا أشياء يسيرة للغاية ومعقولة تماما، ولا يحتاج الإنسان مطلقا إلى معرفة تامة باللغة التي كتب بها حتى يدرك تفكيره ويتأكد من فهمه للمعنى الحقيقي، بل تكفي لذلك معرفة عادية جدا لا تتعدى معرفة الأطفال، كذلك لا يكون من المفيد معرفة حياة المؤلف والغاية التي كان يرمي إليها وعاداته، واللغة التي كتب بها، ومن كتب لهم، ومتى كتب، وظروف الكتاب، ومصيره، والصيغ المختلفة للنص، ومن هم الذين قرروا جمعه. وما يقال عن إقليدس يقال أيضا عن جميع من كتبوا في موضوعات قابلة لأن تدرك بطبيعتها. ننتهي من ذلك إذن إلى أننا نستطيع بسهولة تامة، بما يمكننا التوصل إليه من معرفة تاريخية بالكتاب، أن ندرك فكر الكتاب فيما يتعلق بالتعاليم الخلقية، وأننا في هذه الحالة نستطيع أن نعرف معناها عن يقين؛ إذ يتم التعبير عن التعاليم المتعلقة بالتقوى الحقة بأكثر الكلمات تداولا، لأنها شائعة للغاية بين الناس، ولأنها يسيرة جدا ويسهل فهمها. وفضلا عن ذلك، فلما كان الخلاص الحقيقي والسعادة الروحية يكمنان في طمأنينة النفس، وكنا لا نجد الطمأنينة الحقيقية إلا فيما نعلمه بوضوح تام، فمن الواضح أننا نستطيع أن ندرك عن يقين فكر الكتاب فيما يتعلق بالأمور الجوهرية للخلاص والضرورية للسعادة الروحية. وإذن فليس هناك ما يدعو إلى القلق على باقي الأمور، لأننا لما كنا في أغلب الأحيان نعجز عن إدراكها بالعقل والذهن، فيجب اعتبارها أمورا أدخل في باب الغرائب منها في باب الأشياء النافعة.
أعتقد أنني قد بينت على هذا النحو المنهج الصحيح لتفسير الكتاب، وشرحت بما فيه الكفاية طريقتي في معالجة هذا الموضوع، ولا شك عندي أن كل شخص يرى الآن أن هذا المنهج لا يتطلب نورا سوى النور الفطري؛ ذلك أن طبيعة هذا النور وصفته المميزة تنحصر في استنباطه الأشياء الغامضة واستخلاصه إياها بوصفها نتيجة مشروعة من الأشياء المعروفة أو الأشياء المعطاة على أنها معروفة، ولا يتطلب منهجنا أكثر من هذا. ولا شك أننا نسلم بأن هذا المنهج لا يكفي لتوضيح كل ما تتضمنه التوراة، ولكن ذلك لا يرجع إلى نقص في المنهج، بل يرجع إلى أن الطريق الذي يدعو إليه، هو الطريق القويم والصحيح الذي لم يتبعه الناس، ولم يسلكوه من قبل ، بحيث أصبح على مر الزمان وعرا يكاد يستحيل السير فيه. وأعتقد أني وضحت ذلك تماما بما ذكرته من صعوبات موجودة فيه.
لم يبق الآن إلا أن نفحص الآراء المخالفة لرأينا. هناك أولا رأي من يظنون أن النور الطبيعي لا يقدر على تفسير الكتاب، وأنه لا بد لذلك من وجود نور يفوق الطبيعة. أما ما هو هذا النور الذي يضاف إلى النور الطبيعي، فهذا ما ينبغي عليهم هم أنفسهم أن يوضحوه. وأنا من جانبي لا أستطيع إلا أن أفترض أنهم أرادوا برأيهم هذا أن يعترفوا، مستخدمين تعبيرات أكثر إيهاما، بعدم تأكدهم من المعنى الحقيقي لنصوص كثيرة من الكتاب؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى تفسيراتهم فلن نجد فيها على الإطلاق شيئا يفوق الطبيعة، بل سنجد مجرد تخمينات. ولو قارنا تفسيراتهم هذه بتفسيرات من يعترفون صراحة بأن ليس لديه إلا النور الطبيعي، لوجدناها متشابهة تماما؛ فكلا التفسيرين من ابتداع البشر، وكلاهما يرجع إلى جهد طويل في التفكير. أما ما يقولونه عن عدم كفاية النور الطبيعي، فمن المؤكد أنه باطل؛ فمن ناحية لا تأتي الصعوبة في تفسير الكتاب - كما بينا من قبل - من ضعف النور الفطري بل من تراخي (إن لم نقل خبث) من أهملوا الحصول على معرفة تاريخية ونقدية بالكتاب في الوقت الذي كانوا يستطيعون فيه ذلك، ومن ناحية أخرى، فإن هذا النور الذي يفوق الطبيعة (والكل يسلم بذلك إلا المخطئون) هبة يعطيها الله المؤمنين وحدهم، إلا أن الأنبياء والحواريين قد اعتادوا ألا يعظوا المؤمنين وحدهم بل وعظوا الكفار والفاسقين أيضا، فلا بد إذن أن هؤلاء الأخيرين كانوا أيضا قادرين على فهم فكر الأنبياء والحواريين، وإلا لظهر الأنبياء والحواريون كما لو كانوا يعظون الصبية والأطفال الصغار، لا الرجال العقلاء، ولكان من العبث وضع قوانين موسى، ما دام فهمها مستحيلا على المؤمنين وحدهم، الذين لا يحتاجون إلى أي قانون. وإذن، ففي اعتقادي أن النور الطبيعي ينقص هؤلاء الذين يبحثون عن النور الذي يفوق الطبيعة من أجل فهم أفكار الأنبياء والحواريين، وهم أبعد ما يكونون - فيما أعتقد - عن الحصول على هبة إلهية تفوق الطبيعة.
وكان لابن ميمون
27
رأي آخر مخالف كل الاختلاف. كان يعتقد أن لكل نص من الكتاب معاني كثيرة بل ومعاني متعارضة، وأننا لا نستطيع أن نعرف المعنى الحقيقي لأي نص إلا بقدر ما نعرف أنه - كما نفسره نحن - لا يحتوي على شيء يعارض العقل ويناقضه.
Unknown page