الرسالة
للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي
(١٥٠ هـ - ٢٠٤ هـ)
بتحقيق وشرح
أبي الاشبال أحمد محمد شاكر
عن أصل بخط الربيع بن سلمان، كتبه في حياة الشافعي
(لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لانني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لاكثر الدعاء له) عبد الرحمن بن مهدي
المقدمة / 1
هذا السفر القيم يضم بين دفتيه:
١ - المقدمة
٢ - السماعات
٣ - اللوحات المصورة
٤ - كتاب الرسالة مشروحا محققا:
يحتوى على أربعة أجزاء
٥ - الاستدراك
٦ - المراجع
٧ - مفاتيح الكتاب
المقدمة / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
هذا الكتاب (الرسالة) للشافعي.
وكفى الشافعي مدحا أنه الشافعي.
وكفى (الرسالة) تقريظا أنها تأليف الشافعي.
وكفاني فخرا أن أنشر بين الناس علم الشافعي.
[مع إعلامهم نهيه عن تقليده وتقليد غيره] (^١).
ولو جاز لعالم أن يقلد عالما كان أولى الناس عندي أن يقلد -: الشافعي.
فإني أعتقد - غير غال ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الاسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط. مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والايداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان الى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القران، ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف
_________
(^١) اقتباس من كلام المزني في أول مختصره بحاشية الام (ج ١ ص ٢).
المقدمة / 5
يفصل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما أو في أحدهما. حتى سماه أهل مكة " ناصر الحديث ".
وتواترت أخباره إلى علماء الاسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه، حتى إن أحمد بن حنبل جلس معه مرة، فجاء أحد إخوانه يعتب عليه أن ترك مجلس ابن عيينة - شيخ الشافعي -. ويجلس إلى هذا الاعرابي! فقال له أحمد: " اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف أن لا تجده، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى ". وحتى يقول داود بن علي الظاهري الامام في كتاب مناقب الشافعي: " قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل الى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحا حسن الادب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهما، فلو كنت عرفته للزمته. قال داود: ورأيته يتأسف على ما فاته منه ". وحتى يقول أحمد بن حنبل: " لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث ". ويقول أيضا: " كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسول الله ".
ثم يدخل العراق، دار الخلافة وعاصمة الدولة (^١)، فيأخذ عن أهل الرأي علمهم ورأيهم، وينظر فيه، ويجادلهم ويحاجهم، ويزداد بذلك بصرا
_________
(^١) دخل الشافعي بغداد ثلاث مرات، الاولى وهو شاب سنة ١٨٤ أو قبلها في خلافة هارون الرشيد، والثانية في سنة ١٩٥ ومكث سنتين، والثالثة سنة ١٩٨ فأقام بها أشهرا، ثم خرج إلى مصر.
المقدمة / 6
بالفقه ونصرا للسنة، حتى يقول أبو الوليد المكي الفقيه موسى بن أبي الجارود:
" كنا نتحدث نحن وأصحابنا من أهل مكة أن الشافعي أخذ كتب ابن جريح (^١) عن أربعة أنفس: عن مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وهذان فقيهان، وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان أعلمهم بابن جريح، وعن عبد الله بن الحرث المخزومي، وكان من الاثبات، وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملا ليس فيها شئ إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك، حتى أصل الاصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار ".
ثم دخل مصر في سنة ١٩٩ فأقام بها إلى أن مات، يعلم الناس السنة وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلا لم تر الاعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب وعلم الحديث، ويأخذون عنه اللغة والانساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم يتعلمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرؤن عليه ما ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاء، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملا الشافعي طباق الارض علما.
ومات ودفن بمصر، وقبره معروف مشهور إلى الان. وعاش ٥٤ سنة،
_________
(^١) انتهت رياسة الفقه بمكة إلى ابن جريج.
المقدمة / 7
ولد سنة ١٥٠ بغزة، ومات ليلة الجمعة ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب سنة ٢٠٤ (^١) (الجمعة ٢٩ رجب سنة ٢٠٤ يوافق ١٩ يناير سنة ٨٢٠ ميلادية، ٢٣ طوبة سنة ٥٣٦ قبطية).
وليس الشافعي ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، وقد ألف العلماء الائمة في سيرته كتبا كثيرة وافية، وجد بعضها وفقد أكثرها. ولعلنا نوفق إلى أن نجمع ما تفرق من أخباره في الكتب والدواوين، في سيرة خاصة به، إن شاء الله.
وقد يفهم بعض الناس من كلامي عن الشافعي أني أقول عن تقليد أو عصبية، لما نشأ عليه أكثر أهل العلم من قرون كثيرة، من تفرقهم شيعا وأحزابا علمية، مبنية على العصبية المذهبية، مما أضر بالمسلمين وأخرهم عن سائر الامم، وكان السبب الاكبر في زوال حكم الاسلام عن بلاد المسلمين، حتى صاروا يحكمون بقوانين تخالف دين الاسلام، خنعوا لها واستكانوا، في حين كان كثير من علمائهم يأبون الحكم بغير المذهب الذي يتعصبون له ويتعصب له الحكام في البلاد. ومعاذ الله أن أرضى لنفسي خلة أنكرها على الناس، بل أبحث وأجد، وأتبع الدليل الصحيح حيثما وجد. وقد نشأت في طلب العلم وتفقهت على مذهب أبي حنيفة، ونلت شهادة العالمية من الازهر الشريف حنفيا، ووليت القضاء منذ عشرين سنة أحكم كما يحكم إخواني بما أذن لنا في الحكم به من مذهب الحنفية. ولكني بجوار هذا بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والائمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فان أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجال. أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقا قبل كل شئ وفوق كل شئ. فعن هذا قلت ما قلت واعتقدت ما أعتقد في الشافعي، ﵀ ورضى عنه.
_________
(^١) ذكر المرحوم مختار باشا في التوفيقات الالهامية أن الشافعي مات في ٤ شعبان، وهو خطأ.
المقدمة / 8
كتاب الرسالة
ألف الشافعي كتبا كثيرة، بعضها كتبه بنفسه وقرأه على الناس أو قرؤه عليه، وبعضها أملاه إملاء، وإحصاء هذه الكتب عسير، وقد فقد كثير منها. فألف في مكة، وألف في بغداد، وألف في مصر. والذي في أيدي العلماء من كتبه الان ما ألفه في مصر، وهو كتاب (الام) الذي جمع فيه الربيع بعض كتب الشافعي، وسماه بهذا الاسم، بعد أن سمع منه هذه الكتب، وما فاته سماعه بين ذلك، وما وجده بخط الشافعي ولم يسمعه بينه أيضا، كما يعلم ذلك أهل العلم ممن يقرؤن كتاب (الام). و(كتاب اختلاف الحديث) وقد طبع بمطبعة بولاق بحاشية الجزء السابع من الام. و(كتاب الرسالة). وهما مما روى الربيع عن الشافعي منفصلين، ولم يدخلهما في كتاب (الام).
ولمناسبة الكلام عن كتب الشافعي وكتاب الام خاصة، يجدر بنا أن نقول كلمة فيما أثاره صديقنا الاديب الكبير الدكتور زكي مبارك حول كتاب (الام) منذ بضعة أعوام، فقد تعرض للجدل في هذا الكتاب، عن غير بينة ولا دراسة منه لكتب المتقدمين وطرق تأليفهم، ثم طرق رواية المتأخرين عنهم لما سمعوه، فأشبهت عليه بعض الكلمات في (الام) فظنها دليلا على أن الشافعي لم يؤلف هذه الكتب. واستند إلى كلمة رواها أبو طالب المكي في أخذه الربيع بعد موته فادعاه لنفسه. ثم جادل الدكتور زكي مبارك في هذا جدالا شديدا، وألف فيه كتابا صغيرا، أحسن ما فيه أنه مكتوب بقلم كاتب بليغ، والحجج على نقض كتابه متوافرة في كتب الشافعي نفسها. ولو صدقت هذه الرواية لارتفعت الثقة بكل كتب العلماء، بل لارتفعت الثقة بهؤلاء العلماء أنفسهم، وقد رووا لنا العلم والسنة، بأسانيدهم الصحيحة الموثوق بها، بعد أن نقد علماء الحديث سير الرواة وتراجمهم، ونفوا رواية كل من حامت حول صدقه أو عدله شبهة، والربيع المرادي من ثقات الرواة عند المحدثين، وهذه الرواية فيها تهمة له بالتلبيس والكذب، وهو أرفع قدرا وأوثق أمانة من أن نظن به أنه يختلس كتابا ألفه البويطي ثم ينسبه لنفسه، ثم يكذب على الشافعي في كل ما يروى أنه من تأليف الشافعي، بل لو صح عنه بعض هذا كان من أكذب الوضاعين وأجرئهم على الفرية!! وحاش لله أن يكون الربيع الا ثقة أمينا. وقد رد مثل هذه الرواية أبو الحسين الرازي الحافظ محمد بن عبد الله بن جعفر المتوفى سنة ٣٤٧، وهو والد الحافظ تمام الرازي، فقال: " هذا لا يقبل، بل
المقدمة / 9
البويطي كان يقول: الربيع أثبت في الشافعي مني، وقد سمع أبو زرعة الرازي كتب الشافعي كلها من الربيع قبل موت البويطي بأربع سنين ". انظر التهذيب للحافظ ابن حجر (٣: ٢٤٦).
وقد يظن بعض القارئين أني أقسو في الرد على الدكتور، ومعاذ الله أن أقصد إلى ذلك، وهو الاخ الصادق الود، ولكن ماذا أصنع؟ وهو يرمي أوثق رواة كتب الشافعي - الربيع المرادي - بالكذب على الشافعي، ثم ينتصر لرأيه، ويسرف في ذلك، ويخونه قلمه، حتى ينقل عن الام نقلا غير صحيح، ينتهي به إلى أن يرمي الشافعي نفسه بالكذب!! فيزعم في كتابه أن عبارة " أخبرنا " لا تدل على السماع في الرواية، وأن الاخبار معناه أحيانا النقل والرأي، ثم ينقل عن الام أن الشافعي قال في (ج ١ ص ١١٧) " أخبرنا هشيم " ويقول: " إن الشافعي لم يلق هشيما، فقد توفي هشيم ببغداد سنة ١٨٣ والشافعي إنما دخل إلى بغداد سنة ١٩٥ ". وأصل هذا الاستدراك للسراج البلقيني، وهو مذكور بحاشية الام، ولكن تعليقا، وذلك أن يروي الرجل عمن لم يلقه من الشيوخ شيئا فيذكر اسمه فقط على تقدير " قال "، أو يقول صريحا " قال فلان ". وليس بهذا بأس، بل هو أمر معروف مشهور، ولا مطعن على الراوي به. ولذلك بين البلقيني الامر، فان لكلامه بقية حذفها الدكتور، وهي: " فلكونه لم يسمع منه يقول بالتعليق: هشيم، يعني: قال هشيم ". ولكن الدكتور زكي مبارك فاته معنى هذا عند علماء المصطلح، فحذفه. ثم زاد فيما نقل عن الشافعي كلمة " أخبرنا " ليؤيد بها رأيه الذي اندفع في الاحتجاج له.
* فائدة: أخطأ السراج البلقيني في هذا الموضع، في إيهامه أن الشافعي لم يدخل بغداد إلا سنة ١٩٥ لانه ثبت أنه دخلها سنة ١٨٤ وسمع من محمد بن الحسن كثيرا من العلم. كما أخطأ أيضا في حاشية أخرى كتبها بعد هذا الموضع (الام ١: ١١٨) عند قول الشافعي " أخبرنا ابن مهدي " قال: " هكذا وقع في نسخة الام أن الشافعي يقول: أخبرنا ابن مهدي، والشافعي لم يجتمع بابن مهدي ". ووجه الخطأ أن الشافعي وابن مهدي تعاصرا، وكلاهما دخل بغداد، والغالب أن ابن المهدي كان يدخل الحجاز، والمعروف البديهي عند علماء الحديث أن الراوي العدل إذا قال " حدثنا " أو " أخبرنا " كان الحديث متصلا، وأنه إذا قال " عن فلان " لمن ثبت لقاؤه إياه ولو مرة واحدة حمل على الاتصال أيضا، لا يخالف أحد منهم في ذلك. (انظر الرسالة رقم ١٠٣٢) وإنما اختلفوا فيمن يقول " عن فلان " لشخص عاصره ولم يثبت أنه لقيه ولو مرة، فالبخاري لا يحمله على الاتصال، ومسلم وأكثر أهل العلم يجعلونه متصلا أيضا، وهو الراجح الصحيح. ولا يخالف أحد من العلماء في أن الرواي الذي يقول " حدثنا " أو " أخبرنا " لما لم يسمع فانما هو كذاب وضاع، فالشافعي الصادق الامين إذا قال " أخبرنا ابن مهدي " فقد أخبره، لا يجوز فيه غير هذا.
و(كتاب الرسالة) ألفه الشافعي مرتين. ولذلك يعده العلماء في فهرس مؤلفاته كتابين: الرسالة القديمة، والرسالة الجديدة. أما الرسالة القديمة فالراجح
المقدمة / 10
عندي أنه ألفها في مكة، إذ كتب إليه عبد الرحمن بن مهدي (^١) " وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القران. ويجمع قبول الاخبار فيه، وحجة الاجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة. فوضع له كتاب الرسالة " (^٢) وقال علي بن المديني: " قلت لمحمد بن أدريس الشافعي أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك. قال:
فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق، وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي " (^٣). وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحرث بن سريج النقال الخوارزمي ثم البغدادي، وبسبب ذلك سمي " النقال " (^٤).
والظاهر عندي أن عبد الرحمن بن مهدي كان إذ ذلك في بغداد، دخلها سنة ١٨٠، ولكن الفخر الرازي يقول في كتاب مناقب الشافعي (ص ٥٧):
" اعلم أن الشافعي رضى الله عنه صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير ". وأياما كان فقد ذهبت الرسالة القديمة، وليس في أيدي الناس الان إلا الرسالة الجديدة، وهي هذا الكتاب. وقد تبين لنا من استقراء كتب الشافعي الموجودة التي ألف بمصر أنه ألف هذه الكتب من حفظه، ولم تكن كتبه كلها معه. انظر إليه يقول في كتاب الرسالة (رقم ١١٨٤). " وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت
_________
(^١) عبد الرحمن بن مهدي الحافظ الامام العلم، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا.
ولد سنة ١٣٥ ومات في جمادي الاخرة سنة ١٩٨.
(^٢) رواه الخطيب باسناده في تاريخ بغداد (٢: ٦٤ - ٦٥) وسيأتي في السماعات برقم (٥٢) ورواه أيضا البيهقي باسناده، نقله عنه ياقوت في معجم الادباء (٦: ٣٨٨ - ٣٨٩).
(^٣) رواه الحافظ ابن عبد البر باسناده في الانتقاء (ص ٧٢ - ٧٣).
(^٤) الانتقاء (ص ٧٢) والانساب (ورقة ٥٧٦) وطبقات الشافعية (١: ٢٤٩).
المقدمة / 11
ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصي العلم في كل أمره ". ويقول في كتاب اختلاف الحديث (ص ٢٥٢): " وقد حدثني الثقة أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي، ولا أدري أدخله عبد الوهاب بينهما فزال من كتابي حين حولته من الاصل أم لا؟ والاصل يوم كتبت هذا الكتاب غائب عني ".
والظاهر عندي أيضا أنه أعاد تأليف كتاب الرسالة بعد تأليف أكثر كتبه التي في (الام)، لانه يشير كثيرا في الرسالة إلى مواضع مما كتب هناك، فيقول مثلا (رقم ١١٧٣): " وقد فسرت هذا الحديث قبل هذا الموضع ". وهذه إشارة إلى ما في الام (٦: ٧٧).
والراجح أنه أملى (كتاب الرسالة) على الربيع إملاء، كما يدل على ذلك قوله في (٣٣٧): " فخفف فقال: علم أن سيكون منكم مرضى. قرأ إلى: فاقرؤا ما تيسر منه ". فالذي يقول " قرأ " هو الربيع، يسمع الاملاء ويكتب، فإذا بلغ إلى آية من القران كتب بعضها ثم يقول " الاية " أو " إلى كذا "، فيذكر ما سمع الانتهاء إليه منها، ولكن هنا صرح بأن الشافعي قرأ إلى قوله " فاقرؤا ما تيسر منه ".
والشافعي لم يسم " الرسالة " بهذا الاسم، إنما يسميها (الكتاب) أو يقول " كتابي " أو " كتابنا ". وانظر الرسالة (رقم ٩٦، ٤١٨، ٤٢٠، ٥٧٣، ٦٢٥، ٧٠٩، ٩٥٣) وكذلك يقول في كتاب (جماع العلم) مشيرا إلى الرسالة " وفيما وصفنا ههنا وفي (الكتاب) قبل هذا ". (الام ٧: ٢٥٣). ويظهر أنها سميت " الرسالة " في عصره، بسبب إرساله إياها لعبد الرحمن بن مهدي (^١).
_________
(^١) وقد غلبت عليها هذه التسمية، ثم غلبت كلمة " رسالة " في عرف المتأخرين على كل كتاب صغير الحجم، مما كان يسميه المتقدمون " جزءا ". فهذا العرف الاخير غير جيد، لان " الرسالة " من " الارسال ".
المقدمة / 12
وهذا كتاب (الرسالة) أول كتاب ألف في (أصول الفقه) بل هو أول كتاب ألف في (أصول الحديث) أيضا. قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي (ص ٥٧): " كانوا قبل الامام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.
فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطا طاليس إلى علم العقل ".
وقال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الاصول (مخطوط): " الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القران، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس ". وأقول: إن أبواب الكتاب ومسائله، التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب -: هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه.
و(كتاب الرسالة) بل كتب الشافعي أجمع، كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة. قال عبد الملك بن هشام النحوي صاحب السيرة: " طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها ". وقال أيضا: " جالست الشافعي زمانا، فما
المقدمة / 13
سمعته تكلم بكلمة إلا إذا أعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها ".
وقال أيضا: " الشافعي كلامه لغة يحتج بها ". وقال الزعفراني: " كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي ".
وقال الاصمعي: " صححت أشعار هذيل على فتى من قريش، يقال له محمد بن إدريس الشافعي ". وقال ثعلب: " العجب أن بعض الناس يأخذون اللغة عن الشافعي، وهو من بيت اللغة! والشافعي يجب أن يؤخذ منه اللغة، لا أن يؤخذ عليه اللغة ". يعني يجب أن يحتجوا بألفاظه نفسها، لا بما نقله فقط. وكفى بشهادة الجاحظ في أدبه وبيانه (^١)، يقول: " نظرت في كتب هؤلاء النبغة (^٢) الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدر ".
فكتبه كلها مثل رائعة من الادب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته، ويملي بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرؤه بعد القران والحديث، لا يساميه قائل، ولا يدانيه كاتب.
وإني أرى أن هذا الكتاب (كتاب الرسالة) ينبغي أن يكون من الكتب المقروءة في كليات الازهر وكليات الجامعة، وأن تختار منه فقرات لطلاب الدراسة الثانوية في المعاهد والمدارس، ليفيدوا من ذلك علما بصحة النظر وقوة الحجة، وبيانا لا يرون مثله في كتب العلماء وآثار الادباء.
وقد عني أئمة العلماء السابقين بشرح هذا الكتاب، كما ظهر لنا من
_________
(^١) الجاحظ صنو الشافعي، ولد في أول سنة ١٥٠ التي ولد فيها الشافعي، وعمر نحوا من ضعفي عمره، مات في المحرم سنة ٢٥٥.
(^٢) " نبغة القوم " بفتح النون والباء: وسطهم.
المقدمة / 14
تراجم بعضهم ومن كتاب (كشف الظنون)، والذين عرفت أنهم شرحوه خمسة نفر:
١ - أبو بكر الصديق محمد بن عبد الله، كان يقال: إنه أعلم خلق الله بالاصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج، مات سنة ٣٣٠ ذكر شرحه في كشف الظنون وطبقات الشافعية (٢: ١٦٩ - ١٧٠) والزركشي في خطبة البحر.
٢ - أبو الوليد النيسابوري الامام الكبير حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي الاموي، تلميذ ابن سريج، وشيخ الحاكم أبي عبد الله، وصاحب المستخرج على صحيح مسلم، ولد بعد سنة ٢٧٠ ومات ليلة الجمعة ٥ ربيع الاول سنة ٣٤٩ (الطبقات ٢: ١٩١ - ١٩٢) ولم يذكر شرحه، وذكره الزركشي وكشف الظنون.
٣ - القفال الكبير الشاشي، محمد بن علي بن إسماعيل، ولد سنة ٢٩١ ومات في آخر سنة ٣٦٥ ذكره الزركشي وكشف الظنون والطبقات (٢: ١٧٦ - ١٧٨).
٤ - أبو بكر الجوزقي النيسابوري الامام الحافظ محمد بن عبد الله الشيباني، تلميذ الاصم وأبي نعيم، وشيخ الحاكم أبي عبد الله، وصاحب المسند على صحيح مسلم، مات في شوال سنة ٣٨٨ وله ٨٢ سنة (الطبقات ٢: ١٦٩) ولم يذكر شرحه، وذكره كشف الظنون.
٥ - أبو محمد الجويني الامام، عبد الله بن يوسف، والد إمام الحرمين، مات سنة ٤٣٨ (الطبقات ٣: ٢٠٨ - ٢١٩) ولم يذكر الشرح، وذكره الزركشي وكشف الظنون.
ولعل غيرهم شرحه ولم يصل خبره إلي. ولكن هذه الشروح التي عرفنا أخبارها لم أسمع عن وجود شرح منها في أية مكتبة من مكاتب العالم في هذا العصر.
نسخ الكتاب لم أر نسخة مخطوطة من (كتاب الرسالة) إلا أصل الربيع ونسخة ابن جماعة. ولكنا نجد في السماعات - التي سيراها القارئ - أن أكثر الشيوخ وكثيرا من السامعين كانت لهم نسخ يصححونها على أصل الربيع، وأن نسخة ابن جماعة قوبلت على أصول مخطوطة عديدة، فأين ذهبت كل هذه الاصول؟! لا أدري.
وقد طبع الكتاب في مصر ثلاث مرات:
المقدمة / 15
١ - الاولى بالمطبعة العلمية سنة ١٣١٢ بتصحيح (يوسف صالح محمد الجزماوي)، في (١٦٠ صفحة) بقطع الثمن، وهي طبعة مملوءة بالاغلاط. وهي التي نشير إليها بحرف (ج).
٢ - الثانية بالمطبعة الشرفية سنة ١٣١٥ في (١٤٤ صفحة) بقطع الربع، وقد طبعت عن أصل الربيع بالواسطة، نقلها أولا (محمد مصطفى الكاتب بالكتبخانة الخديوية سنة ١٣٠٨ ثم نسخت عنها نسخة فرغ منها كاتبها (في يوم الاحد ١٤ صفر سنة ١٣١٠) على ذمة ناشرها (الشيخ سليم سيد أحمد أبراهيم شرارة القباني)، وهذه النسخة أقل من سابقتها أغلاطا في الجزء الاول من تقسيم الربيع، ثم يظهر أن مصححها عارض بنسخ أخرى أو بالطبعة السابقة، فكثرت مخالفته لاصل الربيع، وكثرت فيها الاغلاط، ولكن ميزتها أن فيها كل السماعات التي على الاصل، وإن أخطأ الناسخ في قراءة كثير منها، وهو في ذلك معذور.
وهي التي نشير إليها بحرف (ش).
٣ - الثالثة بمطبعة بولاق سنة ١٣٢١ عل نفقة السيد أحمد بك الحسيني المحامي ﵀، في (٨٢ صفحة) بالقطع الكبير، وهي مملوءة بالاغلاط أيضا، ومخالفة في كثير من المواضع لاصل الربيع، ولا أدري عن أي النسخ طبعت، وإن كنت أظن أن مصححي مطبعة بولاق رجعوا كثيرا إلى نسخة ابن جماعة. وهي التي نشير إليها بحرف (ب).
وقد ذكرنا في تعليقنا على الرسالة مواضع مخالفة هذه النسخ للاصل، ليكون القارئ على بينة من أمرها، فلا يظن أننا أخطأنا في مخالفتها، أو قصرنا في المقابلة، وليوقن أن هذه الطبعة أصح الطبعات وأجودها.
ويجمل بي في هذه المناسبة أن أنوه بفضل إخواني (أنجال المرحوم السيد مصطفى البابي الحلبي) إذ ساروا على الخطة المثلى، خطة أبيهم ﵀، في إحياء الكتب العربية القيمة، وإخراجها للناس تملا العين وتسر القلب، محافظين على آثار سلفنا الصالح ﵃، فبذلوا ما بذلوا من جهد ومال، في سبيل إخراج هذا الكتاب، فكان لي من تشجيعهم وأناتهم عون كبير في تحقيقه وشرحه، حتى سلخت في ذلك نحو ثلاث سنين، والحمد لله على توفيقه.
المقدمة / 16
أصل الربيع
من أول يوم قرأت في أصل الربيع من (كتاب الرسالة) أيقنت أنه مكتوب كله بخط الربيع، وكلما درسته ومارسته ازددت بذلك يقينا، فتوقيع الربيع في آخر الكتاب بخطه بإجازة نسخه إذ يقول: " أجاز الربيع بن سليمان صاحب الشافعي نسخ كتاب الرسالة، وهي ثلاثة أجزاء في ذي القعدة سنة خمس وستين ومائتين، وكتب الربيع بخطه " (^١) -: نفهم منه أنه كان ضنينا بهذا الاصل، لم يأذن لاحد في نسخه من قبل، حتى أذن في سنة ٢٦٥ بعد أن جاوز التسعين من عمره، وعبارة الاجازة تدل على ذلك، لمخالفتها المعهود في الاجازات، إذ يجيز العلماء لتلاميذهم الرواية عنهم، أما إجازة نسخ الكتاب فشئ نادر، لا يكون إلا لمعنى خاص، وعن أصل حجة لا تصل إليه كل يد.
والخابر بالخطوط القديمة يجزم بأن هذه الاجازة كتبتها اليد التي كتبت الاصل، وأن الفرق بين الخطين إنما فرق السن وعلوها، فاضطربت يد الكاتب بعد أن جاوز التسعين، بما لم يوجد في خطه في فتوته لم يجاوز الثلاثين (^٢)، وقد خشيت أن أثق برأيي وحدي في ذلك، فأردت أن أتثبت، فاستشرت أحد إخواني ممن لهم خبرة بينة وعلم بالخطوط، فوافقني على أن كاتب الاجازة وكاتب الاصل وكاتب عناوين الاجزاء الثلاثة شخص واحد، لا فرق بينها إلا أنه كتب العناوين بالخط الكوفي، وكتب الاجازة وهو شيخ كبير.
_________
(^١) انظر صورتها في اللوحة (رقم ٩) وفي (ص ٦٠١) من الكتاب.
(^٢) ولد الربيع سنة ١٧٤ ومات في ٢٠ شوال سنة ٢٧٠.
المقدمة / 17
وأنا أرجح ترجيحا قريبا من اليقين أن الربيع كتب هذه النسخة من إملاء الشافعي، لما بينت فيما مضى، ولانه لم يذكر الترحم على الشافعي في أي موضع جاء اسمه فيه، ولو كان كتبها بعد موته لدعا له بالرحمة ولو مرة واحدة، كعادة العلماء وغيرهم.
وقد حاول الدكتور (ب. موريتس (^١» أن يدخل الشك على تاريخ هذه النسخة، فادعى في كتاب الخطوط العربية أنها مكتوبة سنة ٣٥٠ تقريبا.
فعن ذلك تردد بعض إخواني ممن تحدثت إليهم في أن الربيع كتبها، وزعموا أنها نسخة مكتوبة بعد الربيع بدهر، وأن ناسخها نقلها ونقل نص الاجازة، ثم لم يبين أنه نقلها!! وهذا رأى لا يثبت على النقد، لان المعروف في نقل الكتب أن الناسخ إذا نسخ الكتاب وتاريخ كتابته وما كتب عليه من إجازة أو سماع مثلا -: أثبت أن هذا نص ما كان على النسخة التي ينقل منها.
ثم الذي ينقضه نقضا ارتعاش القلم الظاهر في كتابة الاجازة، فلو كانت منقولة عن نسخة أخرى ما افترق خطها عما قبلها، ولكان الجميع على نسق واحد.
وكان مما احتجوا به لرأيهم ورأي الدكتور موريتس أنها مكتوبة على الورق، أن الورق لم يكن معروفا في ذلك العهد كثيرا، بل كان جل الكتابة على البردي. وهذا مردود بأن الورق كثر وفشا في القرن الثاني من الهجرة. (انظر مثلا صبح الاعشى ٢: ٤٨٦). واحتجوا أيضا بأن خطها ليس بالقلم الكوفي، الذي كان يكتب به أهل القرن الثاني والثالث. ومن العجب أن هذه الشبهة عرضت أيضا لبعض العلماء الاقدمين، وردها القلقشندي قال: " ذكر صاحب
_________
(^١) كان مديرا لدار الكتب المصرية من ٢٥ اكتوبر سنة ١٨٩٦ إلى ٣١ أغسطس سنة ١٩١١.
المقدمة / 18
إعانة المنشئ أن أول ما نقل الخط العربي من الكوفي إلى ابتداء هذه الاقلام المستعملة الان -: في أواخر خلافة بني أمية، وأوائل خلافة بني العباس: قلت: على أن الكثير من كتاب زماننا يزعمون أن الوزير أبا علي بن مقلة (^١) هو أول من ابتدع ذلك. وهو غلط، فانا نجد من الكتب بخط الاولين فيما قبل المائتين ما ليس على صورة الكوفي، بل يتغير عنه إلى نحو هذه الاوضاع المستقرة، وإن كان هو إلى الكوفي أميل لقربه من نقله عنه " (صبح الاعشي ٣: ١٥) وكأن القلقشندي بهذا يصف نسخة الرسالة، ففي حروفها شبه بالخط الكوفي، ولم يكن الخط الكوفي مهجورا في تلك العصور، بل كانوا يكتبون به المهارق والوثائق، وكانوا يتأنقون به في كتابة المصحف وغيرها، ولذلك نرى الربيع يكتب في عناوين الاجزاء الثلاثة كلمات (الجزء الاول. الجزء الثاني. الجزء الثالث) بالخط الكوفي، ويكتب تحتها كلمات (من الرسالة رواية الربيع بن سليمان عن محمد بن إدريس الشافعي) بخط وسط بين الكوفي وبين خطه في داخل الكتاب (انظر اللوحات رقم ٣، ٤، ٥ مقارنا برقم ٦، ٧، ٨، ٩).
والخطوط العربية القديمة التي وجدت في دور الكتب ودور الاثار تدل على أن هذا الخط كان معروفا في القرن الثاني، قبل ابن مقلة، كما قال القلقشندي.
ومن مثل ذلك أن من الاوراق البردية الموجودة بدار الكتب المصرية ورقة مؤرخة سنة ١٩٥ يشبه خطها خط كتاب الرسالة، بل إن الشبهة بينهما قريب جدا، حتى ليكاد المطلع عليهما أن يظن أن كاتبيهما تعلما الخط على معلم واحد، وهذه الورقة منشورة في الجزء الاول من كتاب (أوراق البردي العربية) الذي ألفه المستشرق جروهمان وترجمه الدكتور حسن إبراهيم، وطبع بدار الكتب
_________
(^١) الوزير أبو علي محمد بن علي ابن الحسن، من وزراء الدولة العباسية، ولد سنة ٢٧٢ ومات سنة ٣٢٨
المقدمة / 19
سنة ١٩ وهي (برقم ٥١ في اللوحة رقم ٨) وقد صورناها، وصورنا قطعة من (ص ٣٦ من الاصل) ووضعناهما متجاورتين في صفحة واحدة (لوحة رقم ١٠، ١١) ليسهل على القارئ المقارنة بينهما، ورسمنا سهما أمام تاريخ ورقة البردي (سنة ١٩٥). ومما لا شك فيه أن خط الربيع يعتبر من خط أهل القرن الثاني، لانه ولد سنة ١٧٤ والشافعي دخل مصر في أواخر سنة ١٩٩ فاتخذ الربيع خادما له وتلميذا خاصا، وكان الشافعي يقول له: " أنت راوية كتبي ". وحين قدم الشافعي مصر كان الربيع مؤذنا بالمسجد الجامع بفسطاط مصر - جامع عمرو بن العاص - وكان يقرأ بالالحان، معنى هذا أنه كان كاتبا قارئا في أواخر القرن الثاني، فقد تعلم الخط والقراءة صغيرا كما يتعلم الناس.
ثم يرفع كل شك في نسب هذه النسخة احتفال العلماء العظماء، والائمة الحفاظ الكبار بها، منذ سنة ٣٩٤ إلى سنة ٦٥٦ وإثبات خطوطهم عليها وسماعاتهم، بل إثبات أنهم صححوا نسخهم وقابلوها عليها، كما ترى فيما يأتي من السماعات والتوقيعات، ويحرصون على إثبات سماعهم فيها طلابا صغارا، ثم إسماعهم إياها لغيرهم شيوخا كبارا. وترى الاسر العلمية الكبيرة يتسابقون إلى سماعها، فيسجلون أسماءهم عليها.
فانك ترى - مثلا - من أئمة الحفاظ الكبار من أهل العلم، الذين سمعوا الكتاب في هذه النسخة -: الحافظ الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، وصديقه الحافظ الامير ابن ماكولا (في السماعات رقم ٨ - ١١) والحافظ أبا الفتيان الدهستاني (في رقم ١٢) والحافظ الكبير ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق (في رقم ١٨، ٢١) والحافظ عبد القادر الرهاوي (في رقم ٢٢، ٢٣)
المقدمة / 20
والحافظ تاريخ الدين القرطبي (في رقم ٢٤، ٢٦، ٢٧) والحافظ زكي الدين البرزالي (في رقم ٢٧، ٢٨).
وترى أن أسرة الحافظ ابن عساكر سمع منها في هذه النسخة أحد عشر رجلا: الحافظ ابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله، وأخواه محمد وأحمد، وابناه: القاسم والحسن ابنا علي، وحفيداه: محمد وعلي ولدا القاسم، وأبناء أخيه:
عبد الله وعبد الرحمن ونصر الله وعبد الرحيم: أبناء محمد بن الحسن (انظر السماعات ١٨، ١٩، ٢١، ٢٤، ٢٥). وأسرة الخشوعي سمع منها سبعة نفر:
أولهم طاهر بن بركات بن إبراهيم الخشوعي، ثم ابنه إبراهيم، ثم بركات بن إبراهيم، ثم أولاده: إبراهيم وأبو الفضل وعبد الله أبناء بركات بن إبراهيم، ثم عثمان بن عبد الله بن بركات (انظر السماعات ١٢، ١٦، ١٨، ٢٢ - ٢٨).
ثم الحافظ ابن عساكر لا يكفيه أن يسجل اسمه في السماعات، فيكتب بخطه أربع مرات على النسخة: " سمع جميعه وعارض بنسخته علي بن الحسن بن هبة الله " (انظر التوقيع رقم ٣٩). وكذلك غيره من الحفاظ والعلماء، مما يظهر من التوقيعات (٣٢ - ٤٥).
ثم يثلج الصدر ويملؤه يقينا أن نجد شهادة بخط أحد العلماء الحفاظ الاثبات القدماء، يسجل فيها أن هذه النسخة بخط الربيع، فنرى هبة الله بن أحمد بن محمد بن الاكفاني (المتوفى في ٦ محرم سنة ٥٢٤ عن ٨٠ سنة) يكتب بخطه ثلاثة عناوين للاجزاء الثلاثة، يسوق فيها إسناده إلى الربيع، ثم يكتب فوق عنوان الاول منها ما نصه: " الجزء الاول من الرسالة لابي عبد الله الشافعي بخط الربيع صاحبه ". ويكتب فوق عنوان الثالث ما نصه: " الجزء الثالث
المقدمة / 21
من الرسالة بخط الربيع صاحب الشافعي ". وأما عنوان الجزء الثاني ففوقه: " الثاني من الرسالة " ويظهر أن باقي الكلام ممحو بعارض من عاديات الزمان. وتجد صورة عنوان الجزء الاول في (اللوحة رقم ١) فترى فيها في الزاوية العليا اليمنى خط الحافظ ابن عساكر، وبجواره خط شيخه ابن الاكفاني.
وقد ظننت أول الامر أن هذه الشهادة بخط ابن عساكر، ثم تبين لي من دراسة خطوط السماعات والعناوين أنها خط ابن الاكفاني.
ثم نرى أيضا أن هؤلاء العلماء - وهم أقرب منا عهدا بالربيع - يتكلفون النص في السماعات كلها أو أكثرها على اسم مالك النسخة، إشارة الى شدة العناية بها، وإشادة بما لمالكها من ميزة وفخر، أن حاز هذا الاثر الجليل النفيس.
أفيظن ظان أو يتوهم متوهم أنهم يصنعون كل هذا لنسخة مزيفة مزورة؟!
أو يخفى عليهم من شأنها ما لم يخف على الدكتور موريتس، وهم أخبر بالخطوط وأعلم بالعلم، وهم يروون الكتاب بأسانيدهم رواية سماع وقراءة؟!
وكثيرا ما عجبت: لماذا عين تاريخها الذي زعم، سنة ٣٥٠ تقريبا، ثم تبينت من أين الوهم. فوجدت في حاشية نسخة العماد ابن جماعة بجوار الفقرة (١٢٦ من الكتاب) ما نصه: " بلغ مقابلة على أصل سمع مرات، تاريخه من حين نسخ ثلاثمائة وثمان وخمسون سنة " ثم كتب بحاشيتها في مواضع أخر: " بلغ مقابلة على النسخة المذكورة ". فرجحت من هذا أنه رأى هذه الكتابة، وليس بدار الكتب نسخ قديمة من الرسالة غير أصل الربيع ونسخة ابن جماعة، فظن أن نسخة ابن جماعة قوبلت على نسخة الربيع، وأن هذا يدل على أن نسخة الربيع كتبت حول سنة ٣٥٠ ولكن هذا النص
المقدمة / 22