وبوجه ليموني أصفر دخل الفارس الثاني وهالة من إشفاق الجمهور تحفه، الجمهور نفسه الذي لا يكره شيئا قدر كرهه للفارس ودوره وقد قلب جبروت الثور عواطفه وموازينه.
والمفروض أن الثور لا يهاجم الفرس مباشرة، ولا يفعل هذا إلا بسلسلة من المحاورات يقوم بها المصارعون على التوالي ليزحزحوا الثور من مركز الدائرة الرملية في الوسط إلى ذلك الجزء من محيطها الذي يوجد فيه الفارس. وفقط حين يحدث هذا ويلمح الثور الفرس يبدأ في مهاجمته، هذه المرة ومن مكانه في مركز الدائرة لمح الثور الحصان وراكبه، ولم يحتج الأمر مناورة أو مداورة؛ فقد أقبل في زوبعة سوداء هائلة، ولولا أن الفارس تحرك بفرسه قليلا وفي الوقت المناسب لحدثت كارثة؛ إذ بهذا الانحراف القليل تفادى من الصدام المروع وانكشف له ظهر الثور، ولم يلبث أن غرس فيه بجماع قوته الحربة. وظل الثور يدفع الفرس برأسه، والفارس بكل ما فيه من قوة وما تسلط عليه من رعب يدفع الحربة بين كتفيه. الثور يدفع وهو يدفع. اللحظات نفسها التي يتأوه لها الجمهور تقززا وتألما لم تحدث شيئا من هذا الأثر؛ فالثور كان يبدو للجمهور كمارد عملاق غير محدود القوة لا يمكن أن يتألم أو تؤثر فيه طعنات. حتى حين خلع الفارس حربته ورشقها في الناحية الأخرى طاعنا إياه طعنة ثانية، مصرا على إبقاء الحربة مغروسة في لحمه، ودفعها بأقصى قواه وطعنه، لم يتأثر الجمهور أو يتململ فقد كان على استعداد لتقبل طعنة ثالثة ورابعة.
ولكن الأبواق دوت معلنة انتهاء مهمة الفارس.
وكذلك دوت الساحة بموجة تصفيق ربما المرة الأولى والأخيرة التي يصفق فيها الجمهور لفارس على مهمته المقيتة وعلى نجاحه في أدائها.
وانسحب البيكادور وهو يحيي الجمهور ووجهه يطفح بالسعادة، وكان أقصى ما كان يتوقعه أن يخرج سالما، وإذا به يخرج بطلا أيضا.
وجاء دور غارس الأعلام (الباندريللوس).
وأن تفعلها مع أي ثور أمر قد يكون معقولا، أما مع هذا الثور بالذات فهو انتحار لا شك فيه؛ إذ قد بدا من تحركاته الأولى أنه يملك مقدرة هائلة على تكييف اندفاعه وضبط تصويبه والقدرة على إيقاف نفسه في الحال والاستدارة، ثم الانطلاق بنفس سرعته الأولى المخيفة.
ولكن المرحلة تمت ودون أي حادث، والجمهور لا يكاد يصدق، وغارس الأعلام نفسه كأنه في حلم أو أنقذ من موت محقق بمعجزة أو بأعجوبة.
هكذا كانت ملامحه تنطق وتوزع ذهولها على زملائه والثور والمدرجات. وبنفخة بوق طالت وامتدت أعلنت بداية مرحلة الصراع الحقيقي (الميوليتا).
ومن خلف العارضة، وبقناع شامل من الثقة والشموخ، وبخطوات إرادية محسوبة تحرك صديقنا الميتادور آخذا طريقه داخل الدائرة مقتربا من الثور.
Unknown page