وفي مناجاة الكاتب لشلال «نياجرا» وقفة تريك العابد يمسح صنمه ويؤنبه ويسبح باسمه ويذكر له قلة غنائه عنه، تريك «فرحا» يحب الطبيعة وينكرها ويلومها ويعذرها، ويقول فيها ما يقوله الكافر الذي يود لو يؤمن والمؤمن الذي شق عليه أن يكفر، ففي مزاجه حنين إلى عقيدته القديمة فيها، وفي عقله نبو عنها وسوء ظن بها. ومن هذا النزاع بين مزاجه وعقله استملى مقالا من غرر ما يقرأ على نمطه في آدابنا الحديثة، وبث زبدة حياته وصفوة تجاريبه في بضع صفحات لا يمل تكرارها، وعندي أنها حسب كاتبها من أثر في عالم الكتابة إن لم يكن له قط أثر سواها.
كان «فرح أنطون» كاتبا على استعداد للرواية والقصص، وكانت ملكته القاصة تظهر أحيانا في مقالاته الأدبية والسياسية كما تظهر في رواياته وحكاياته، فمال به هذا الاستعداد إلى وضع الروايات، فأحسن وارتفع في روايته «أورشليم الجديدة»، ثم تقلبت به صروف، وألمت به محن، وتجرع من مرارة الخيبة مرارا.
وطلب إليه وهو بين اليأس والرجاء أن يترجم أو يكتب للمسرح، فلبى وبدأ بداءة حسنة، ولكنه لم يحقق بغيته، ولم يصنع شيئا يليق به أو يضاف إلى محاسنه، وقد حضرت إحدى رواياته التلحينية، فما أطقت الصبر على أكثر من فصل منها، ولم أر في موضوعها، ولا في فنها، ولا في غنائها، ولا في ممثليها، ولا في الجمهور الذي يسمعها، أثرا ل «فرح أنطون» الذي نعرفه، ولا علامة على ملكته السامية ومكانته الأدبية، وهي زلة نأسف لها ونعتبر بها. ولكن هل هو أول من يلام على اضطراره إلى هجر ملكته والخروج عن جادته؟ ألم يكن يربح في الرواية الواحدة من هذه الروايات ما يعادل ربحه من جميع مؤلفاته ومترجماته الصالحة؟ فمن المسئول عن ذلك؟ أهو أم الجمهور الأحمق المأفون؟! وماذا كان يصنع «فرح أنطون» إن لم يؤلف تلك الروايات؟! ألا فلنعلم أننا إذا كنا لا نختار للأديب النابغ المريض المنقطع الموارد إلا أن يموت بيننا على «الكتمان» جوعا، فقد يحق لذلك الأديب أن يختار لنفسه خاتمة أسلم وأكرم من تلك.
رجال حول «مي»
مي.
في سجل الأدب «الخاص» من عصر النهضة العربية الحديثة مكان فسيح لصفحات جميلة لا تزال مطوية إلى اليوم، وإن كان منها ما يهم أن يطلع إلى عالم النور من طيات الخفاء.
ونعني بالأدب الخاص، ذلك الأدب الذي لم يقصد للنشر، وإن كان فيه ما يشوق الاطلاع عليه كثيرين غير أصحابه في حياتهم الخصوصية. وعلى رأس هذه الصفحات صفحة «الندوة» التي كانت تعقدها نابغة جيلها «ماري زيادة»، وقد اختارت لتوقيعها الأدبي اسم «مي» من الحرفين الأول والأخير في اسمها بدفتر الميلاد، وتأتي هذه الصفحة على رأس أمثالها بين صفحات هذا الأدب الخاص، لمكان «مي» من نهضة الأدب ونهضة المرأة في آن.
لو جمعت الأحاديث التي دارت في ندوة «مي»، لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة «العقد الفريد» ومكتبة «الأغاني» في الثقافتين الأندلسية والعباسية.
ولو جمعت الرسائل التي كتبتها «مي» أو كتبت إليها من نوع هذا الأدب الخاص لتمت بها ذخيرة لا نظير لها في آدابنا العربية، وربما قل نظيرها عند الأمم الأوروبية التي تصدرت فيها المرأة مجالس الأزياء الأدبية والأزياء الاجتماعية، إلا أن يكون ذلك في عصر «الصالونات» أو عصر النهضة منذ القرن السابع عشر إلى ما قبل القرن العشرين.
أذكر هذا بعد قراءة الرسائل التي نشرتها مجلة «الهلال» للعلامة المفضال أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد»، فإن هذه الرسائل تعرفنا بصورة «للطفي السيد» لا نعرفها من كتابته في الجريدة ولا في كتابته في تراجم «أرسطو»، ولا في كتابته بدواوين الوزارة، وفيها من طابع الشخصية، وطابع الندوة، وطابع العصر ما تحسبه خاصا إن شئت، وتحسبه ملكا عاما، من ناحية الفن، لقراء الأدب الذي اقترن باسم «لطفي السيد»، واسم «مي»، وأسماء كتاب الندوة وأدبائها الكثيرين.
Unknown page