ولا ننسى أن «قضية الزوجية» قد عملت عملها المنتظر في الاندفاع بالشيخ إلى هذه الطلعة العاطفية.
إن السيد البكري كان طراز القدوة المختارة بين أبناء طبقته وزيه في الوسامة والقسامة ووجاهة المركب والشارة، وقد طمح الشيخ إلى البناء بأكرم الكرائم من بيت السادة الوفائية، فهل تطيب نفسها أن تراه، وتراه أترابها معها، في طلعة دون طلعة الطراز المرموق من سلالة السادة البكرية؟!
على أنها فتنة «عاقلة» لم تجاوز حدودها التقليدية في نطاق المشيخة كما تقدم، ولم يسلم حافظ إبراهيم من غلو الشعر حين قال في وصف تلك الصبوة من الشيخ الكهل إنه:
أتاه الغرام بسن الشيو
خ فجن جنونا ببنت النبي
فإن الصبوة لم تخرج الرجل قط عن سمته الذي طبع عليه طبعا وتكلف ما لم يطبع عليه منه تكلفا طويلا، وما كان لمثل تلك الصبوة أن تنسي الرجل كل ما كان يشغله في بواكير شبابه إلى خاتمة حياته، وهو شاغل «المقام» الملحوظ بين ذوي الشرف الموروث من علية السادة وذوي القدر والمهابة، وربما كان تحفظه المتأصل فيه هو الذي ألزمه، على غير اختيار منه، ديدن المحافظة إلى حد الاحتجاز، أو الاحتجاز إلى حد الانزواء، أو الانزواء إلى حد الاستكانة التي لم تفارقه بعد ارتفاعه بالجد والجهد معا إلى حيث أراد من دنياه.
كتب الأمير شكيب أرسلان في عدد يناير من المقتطف (1927) في روايته لبعض ذكرياته عن صاحب المؤيد:
كنا نجتمع دائما في مجلس المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأكثر ما نسمر عند صاحب الدولة سعد باشا زغلول، وهو يومئذ سعد أفندي زغلول المحامي الشهير بمصر، وكان ينتاب تلك الحلقة شيخ شخت الخلقة اسمه الشيخ علي يوسف، يأتي فيجلس في الآخر ويلبث أكثر المجلس ساكنا مستمعا، ونكاد نرثي له لضعفه ومسكنته.
ولا نستغرب أن يرى «علي يوسف الشاب» في إبان فقره وانقباضه وخفاء ذكره على سمة توصف بالمسكنة التي يرثي لها من يراه؛ لأن الناظر إلى صاحب المؤيد بعد ارتفاع الشأن وذيوع الصيت كان يستطيع أن يصفه باستكانة تشبه المسكنة إذا نظر إليه وهو صامت ساكن بين الجلساء والنظراء، لولا أن الاستكانة صفة لا يوصف بها المرء وهو يملأ الدنيا بما يقوله وما يقال فيه!
وإنما هو مزاج أصيل فطر عليه هذا العصامي الناجح وعرفه من ذات نفسه فعرف ما خلق له وما لم يخلق له من أول مسعاه، فلم يضيع جهده عبثا في غير ما يستطيع.
Unknown page